مواقف مشرفة من الجيل الأول

حين نقارن مقارنة أخرى في مجال الجهر بالحق والصدع به، نجد أبا بكر رضي الله عنه -مثلاً- لما أسلم جهر بالحق، وبنى مسجداً في داره، كما في صحيح البخاري، وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن، وهو رجل أسيف حزين إذا قرأ القرآن لم يملك نفسه من البكاء، فكانت تنقلب إليه نساء المشركين وأبناؤهم؛ وهم يعجبون منه وينظرون إليه ويتعجبون من بكائه حين يقرأ القرآن، حتى فزع لذلك أشراف قريش، وكان أبو بكر في جوار ابن الدغنة، فجاءوا إليه وقالوا له: يا زيد، إما أن يرجع أبو بكر إليك جوارك، وإما أن يكف ولا يفسد صبياننا ونساءنا علينا، فلا نريد من أبي بكر أن يجهر بالقرآن.

فيأتي إليه ابن الدغنة فيقول له: يا أبا بكر، إنني رجل عربي صميم، وإنني لا أريد أن أُخفر في ذمتي؛ فإما أن تقرأ في بيتك ولا تستعلن بقراءة القرآن، وإما رد إلي جواري.

فيقول له أبو بكر رضي الله عنه: بل أرد إليك جوارك وأرضى بجوار الله عز وجل.

وكذلك أبو ذر رضي الله عنه لما أسلم، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: {ارجع إلى قومك فكن فيهم حتى يأتي إليك أمري} أي: ارجع إلى قبيلتك حتى تسمع أنني قد ظهرت في بلد من البلدان فأت إليّ، فيقول أبو ذر رضي الله عنه؟ : [[والذي بعثك بالحق لأصرخن بها بين ظهرانيهم]] فيأتي أبو ذر -وهو رجل من قبيلة بعيدة من قريش -فيقف في وسط قريش، ويقول لهم: [[يا معشر قريش! إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله]] فيقومون إليه من هاهنا ومن هاهنا ويضربونه حتى يوجعوه ضرباً.

فيفزع إليه العباس بن عبد المطلب وهو يقول لهم: [[يا معشر قريش! ألا تعلمون أن هذا الرجل من قبيلة غفار، وأن طريق تجارتكم إلى بلاد الشام تمر على هذه القبيلة؛ فهل تأمنون أن تأتي هذه القبيلة فتعتدي على أموالكم وتجارتكم؟]] وما يزال بهم حتى خلصه منهم، فيذهب أبو ذر رضي الله عنه.

فهل قال: هذه توبة ولا أرجع لمثلها؟ لا.

بل لما كان من الغد جاء إلى المكان نفسه وصرخ بأعلى صوته، وقال: [[يا معشر قريش إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، اصنعوا ما بدا لكم، لا نامت أعين الجبناء]] فتقوم إليه قريش مرة أخرى، ويقوم إليه العباس حتى يخلصه منهم، وقصته في هذا الصدد رواها البخاري ومسلم في صحيحيهما.

ومثل ذلك إشهار عمر رضي الله عنه الإسلام.

لما أسلم عمر وكان المسلمون قلة مستخفين، فماذا صنع عمر رضي الله عنه؟ القصة كما هي في مصادر عديدة منها في مستدرك الحاكم بطولها، وأصلها في البخاري، وهي قصة في منتهى العجب، لما أسلم عمر ذهب إلى رجل من المشاهير بأنه وكالة أنباء يقال له: جميل بن معمر الجمحي؛ لأن جميلاً هذا إنسان قوال يأتي إلى النوادي والمجالس ويقول: يا بني فلان حدث اليوم كذا وكذا وكذا.

فهذه مهمته يمشي في النوادي وينشر الأخبار، فجاء إليه عمر وقال له: هل علمت بأني قد أسلمت؟ قال: وقد فعلت؟ قال: نعم أسلمت، لكن لا تخبر بذلك أحداً.

يقول عمر لا تخبر بذلك أحداً، أي: لا تترك نادياً، أو مجلساً، أو محفلاً، من محافل قريش إلا وتعلن فيه خبر إسلامي؛ فأعلن الخبر.

ماذا صنع عمر؟ هل دخل بيته وأغلق داره؟ لا.

بل خرج في وسط مكة بل وفي المسجد الحرام، وصار يمر على نوادي قريش ويقاولهم ويلاسنهم، فإذا قالوا له كلمة رد عليهم عشراً، وهو يقول: [[يا معشر قريش! اصنعوا ما بدا لكم]] .

يتحداهم وهم متقصفون حوله ومتحرشون محيطون به، حتى كادوا أن يضربوه وهموا به، وربما حصل اعتداء، فكان يضاربهم ويقاتلهم، من ضربه رد إليهم الكيل كيلين، ومن تكلم عليه تكلم عليه بأقوى وأشد مما قال، حتى إذا صارت الشمس في كبد السماء وقد تعب عمر جلس في الأرض، وهم متقصفون محيطون به، وهو يلتفت إليهم ويقول: [[اصنعوا ما بدا لكم، والله لئن بلغنا ثلاثمائة رجل في مكة لنعاجلنكم، إما أن تخرجون وإما أن نخرج]] فكان يصرخ ويصرخ رضي الله عنه بالإسلام.

وأعجب من ذلك كله أن الحاكم روى في مستدركه بسندٍ قابل للتحسين: أن المسلمين لما بلغوا أربعين رجلاً -ممن لم يهاجروا إلى الحبشة- اجتمعوا في دار الأرقم وأعلنوا إسلامهم، فخرجوا في مسيرة نحو أربعين رجلاً في شوارع مكة يعلنون كلمة التوحيد: لا إله إلا الله محمد رسول الله.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015