النقطة الثانية في واقع الناس في موضوع التثبت: هي قضية التسرع في الفتيا: أي عدم التثبت من الحلال والحرام، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة: {من أفتي بفتيا من غير ثَبْت، فإنما إثمه على من أفتاه} والحديث رواه ابن ماجة والحاكم، وسنده حسن، وله شاهد، وهو يدل على أن الإنسان إذا أفتى بغير علم، فإن الإثم على المفتي الذي ضلل وخدع السائل والمستفتي وأفتاه بغير ما يعلم، ولذلك نجد التثبت عند السلف الصالحين في موضوع الخبر والفتيا والنقل.
حتى قال عبد الرحمن بن أبي ليلى رحمه الله: لقد أدركت عشرين ومائة من الأنصار في هذا المسجد -يعني مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم- ما منهم من رجل يحدث بحديث إلا ودَّ أن أخاه كفاه الحديث، ولا يفتي في مسألة إلا وَدَّ أن أخاه كفاه الفتيا فيها، فكانوا يتدافعون الفتيا حتى تعود إلى الأول، ما منهم أحد يسرع إلى الفتيا، أو يتعجل فيها، أو يهجم عليها بدون علم ولا بصيرة.
وكانوا يكثرون من قول: لا أدري، حتى قال الإمام مالك: إذا ترك العالم (لا أدري) أصيبت مقاتله، أي: أنه تعرض للضرر العظيم، وربما وقع في ورطة لا مخرج له منها، كما أن مسلم ـاً رحمة الله عليه في مقدمة صحيحه من طريق عقيل صاحب بُهَيَّة، أن يحيى بن سعيد كان جالساً عند القاسم بن عبيد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أجمعين فقال يحيى بن سعيد لـ القاسم بن عبيد الله: إنه لعظيم بك يا قاسم أن يسألك الناس عن أمر فلا يجدون عندك منه فرجاً ولا مخرجا! قال: وما ذاك؟ قال: لأنك ابن إمامي هدى أبي بكر وعمر، لأن جده من الأب عمر بن الخطاب، وجده لأمه أبو بكر الصديق، فلا ينبغي أن تُسأل عن مسألة فلا يكون عندك فيها علم، فقال القاسم بن عبيد الله -وهذا يدل على فقهه-: [[أعظم من ذلك عند الله وعند من عقل عن الله أن أفتي بغير علم أو أن أحدث عن غير ثقة]] .
فإذا الناس يقولون: ليس عندي علم، هذا سهل، لكن أن أُفتي بغير علم، أو أُحَدِّثْ عن رجل غير ثقة -هذا أعظم عند الله، وعند من عقل عن الله عز وجل، فسكت يحيى بن سعيد فما أجابه، لأن هذا الكلام كلامٌ مُسْكِت.
ونحن نجد في موضوع التسرع في الفتيا، نجد أن كثيراً من الناس اليوم يقعون في عدم التثبت في ذلك، فمنهم من ينشرون الآراء الباطلة عن العلماء، وينقلون الفتيا دون أن يتثبتوا فيها، أو يتحروا وبسبب ذلك تجد كثيراً من الآراء الغريبة انتشرت عند الناس.
فقد سألتني امرأة قالت: إنني اليوم -وكان اليوم يوم الخميس- انتهيت من صيام أيام الست من شوال، وأريد أن أصوم غداً لسبب، نسيت لماذا تريد أن تصومه؟! لكن سمعت أن صوم الإنسان يوماً بعد ما ينتهي من الست أنه من الشرك.
أقول: ليست المسألة أنه حرام الآن، ولا أنه مكروه، المسألة أنه من الشرك! سمعت أن صيام يوم حتى الست أو بعد الجمعة أنه شرك بالله عز وجل! ولا شك أن هذا بسبب تسرع بعض العامة في نقل الفتيا دون أن يتثبتوا أو يتبصروا فيها.
وكثير من الناس -وهذا من أمثلة الفتوى التي ينقلونها بغير علم، أو فتوى عامي يعتقدون أنه يعرف فيقول بها وهو مستعجل-يرون أن زوج الأخت محرمٌ لها، لأنها تحرم عليه {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء:23] ويسمونه محرماً مؤقتاً، يرون أنه يجوز أن يسافر بها، ويذهب ويجيء ويخلو بها، لأنه لا يجوز له أن ينكحها، فيعتبرون هذه محرمية مؤقتة ما دامت أختها معه، ولا شك أن هذا باطل بإجماع أهل العلم، وإن كانت حراماً عليه، إلا أنه ليس محرماً لها، إنما هو بسبب التعجل في نقل أقوال وآراء العلماء، أو التعجل في الفتيا.
ومثله: أن كثيراً من العامة يشيع وينتشر عندهم أن فتح التمائم المعلقة -التي يعلقها بعض الناس في صدورهم، أو صدور أطفالهم- حرام! وهذا الشائع عند النساء، لأن بعض الذين يكتبون هذه التمائم لا يريدون أن يعرف الناس ماذا في وسطها، إما أن يكونوا كتبوا في وسطها خطوطاً، وطلاسم، وأشياء لا معنى لها، أو أن بعضهم -كما وقفنا- يكتبون أسماء عبرانية، وأشياء غريبة، وكلمات غامضة، وألغازاً، وبعضهم قد يكتب شيئاً من القرآن، لكن لا يريد أن يطلع عليه الناس، لأنه إذا عرف الناس أنه كتب قرآناً، قالوا: نحن نكتب قرآناً، ليس هناك داعٍ أن نذهب إلى فلان، فيريد أن يتوهم الناس أنه يكتب أشياء لا يعرفونها هم، حتى تستمر الحاجة إلى ذلك، فأشاعوا عند الناس أن فتح التمائم حرام.
وتلقى الناس هذه الفتوى بالقبول من غير تثبت فصار بعضهم يعتقد أنه إذا فتح الإنسان هذا الحرز، أو هذه التميمة سوف يصيبه شيء، أو يتعرض لمصيبة، أو لإثم عظيم على الأقل.