وفي المجال العملي نجد الرسول صلى الله عليه وسلم يربي أصحابه على التثبت، انظر إلى قصة حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه، وهي في الصحيحين من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
لما كتب حاطب بن أبي بلتعة الكتاب إلى قريش يخبرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فنزل الوحي يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك.
فبعث علي بن أبي طالب، والزبير في أربعة نفر، وأخبرهم بأنهم سيجدون المرأة في مكان كذا وكذا، ويجدون معها كتاباً من حاطب فذهبوا إلى المرأة وأمسكوا بها، قالت: ما معي كتاب، فقال علي رضي الله عنه: والله ما كَذَبْنا ولا كُذبْنا، سمعنا الكلام من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما ينطق عن الهوى، ومعك كتاب! لكن لتخرجن الكتاب، أو لنجردنك، أو لنكشفن الثياب -إما أن تعطينا الرسالة، وإما أن نبحث عن الرسالة في كل مكان من جسدك، حتى لو اضطررنا إلى أن نعريك لنجد هذا الكتاب الذي أخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم- فلما رأت الجد قالت: تَنَحَّوا (أي ابعدوا) فأخرجته من جدائلها (من شعرها) كانت قد جدلت عليه شعرها، وسلمتهم الكتاب.
وإذا فيه: من (حاطب بن أبي بلتعة: إلى قريش، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سار إليكم) فلما جاءوا بالكتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: {يا رسول الله! دعني أضرب عنقه فقد نافق، فلم يوافق الرسول عليه الصلاة والسلام على هذا العرض، ودعا بـ حاطب بن أبي بلتعة} -وهنا يأتي التثبت، الآن الخطأ وقع، وهو خطأ عظيم، بل هو في الأصل كبيرة من الكبائر، فموالاة الكفار بهذه الصورة وكشف سر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عظيم حتى نزل فيه قرآن، ومع ذلك لم يسارع الرسول عليه الصلاة والسلام لإلقاء الخطبة على الصحابة عن حاطب: هذا المنافق الذي فيه وفيه وفيه وصار يكشف سرنا، ويفضحنا، ويوالى أعداءنا، وهو بيننا! لا! بل ربى أصحابه، قال: أين حاطب؟ هاتوه، بيننا وبينه أمتار، لا داعي أن نتكلم وهو غائب، تعال يا حاطب! ما حملك على ذلك؟ وإنما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك لأسباب منها: أولاً: يمكن أن يكون الكتاب لم يكتبه حاطب بن أبي بلتعة وإنما كتبه شخص آخر وألصقه بـ حاطب بن أبي بلتعة، فإحضار الشخص وسؤاله يزيل هذا اللبس.
حاطب بن أبي بلتعة اعترف وأقر بالكتاب! ولكن تأتي نقطة أخرى: وهي يجب أن نعرف ما هي الدوافع، هل يكون حاطب بن أبي بلتعة فعلاً منافق يوالي الكفار؟ هل هناك أمر آخر دفعه إلى ذلك؟ {قال: ما حملك على ذلك؟ قال: والله يا رسول الله! إني ما كفرت بعد إيماني، ولا ارتددت، وإني أحب الله ورسوله، لكن ما من أصحابك من أحد إلا وله في مكة من يدفع الله به عن أهله وماله، أما أنا فليس لي أحد يدفع الله عني به، قال: فأردت أن أتخذ عندهم يداً، وعلمت أن الله -تعالى- ناصر رسوله ومعلٍ كلمته} لأنه كان لصيقاً بالقوم وليس منهم -لم يكن من قريش- فخشي أن يعتدوا على أمه وعلى ماله الذي في مكة يقول أردت بها أن يدفع الله بها عن مالي وعن أهلي بهذا الكتاب، وفي الوقت الذي غلب على ظني أن هذا الكتاب لن يغير في الأمر شيئاً، فقدر الله نافذ، والله ناصر رسوله، ومعز دينه، ومعلٍ كلمته، فلن يضر هذا الكتاب في الوقت الذي أظن أنه ينفعني.
هذا خطأ كبير، لكن بعدما عرف السبب هان الأمر، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {صدق، صدق، لا تقولوا إلا خيراً} ثم نزل قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة:1] إلى آخر الآيات.
فلو أن واحداً من الناس اليوم حصل منه خطأ يشبه هذا الخطأ، لأفاض الناس في الكلام فيه والوقيعة، والذم، والشتم، والسب، وربما يكون أحدهم من جيرانه ومع ذلك لم يقرع عليه الباب ويدخل ويحادثه ويقول: يا أخي: الإنسان يخطئ، وكل بني آدم خطاء، ولا يغلبنك الشيطان -ومثل هذا الكلام الطيب اللين لا! إنما يسارعون في الوقيعة، والشتم، والسب!! وكأن الناس والعياذ بالله أحيانا يفرحون بخطأ الإنسان حتى يقعوا فيه، فهذا نموذج من التثبت والتبين الذي ربى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه أصحابه.