روى أبو اليسر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو ويقول: {اللهم إني أعوذ بك من الغرق، والحرق، والهدم، وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت} إنَّ من الملاحظ أن الإنسان يبكي عند ولادته، لماذا يبكي؟! لما تؤذن الدنيا به من صروفها يكون بكاءُ الطفل ساعةَ يولدُ وإلا فما يبكيه منها وإنها لأرحب من مما كان فيه وأرغد ثم يختم للإنسان - أيضاً - بحالةٍ من الضيق تشبه ما بدأَ له، وذلك إيذاناً بأن الدار الدنيا: دار جهاد، ودار بلاء، ودار صبر، ودار مقاومة، ودار منازلة قال تعالى: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:64] .
ولذلك أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] .
واليقين هو الموت، وليست العبادة مرهونة بغاية محددة، فلا حصول على شهادة، ولا مرتبة، ولا وظيفة، ولا درجة، ولا شيء غير ذلك، إنما حتى يأتيك اليقين.
لقد خذل كثيرون عند الموت: فمنهم من شك، ومنهم من كفر، ومنهم من تسخط القضاء والقدر، قيل لرجلٍ عند موته: قل: لا إله إلا الله، فقال: هو كافر بها!! وقال أبو جعفر: دخلت على رجل بالضيعة، وهو في الموت، فقلت له: قل: لا اله إلا الله، فقال: هيهات حيل بيني وبينها!! وقال أبو الحسن الفقيه: نزل الموت برجل كان عندنا، فقيل له: استغفر الله، قال: ما أريد! قيل له: قل: لا إله إلا الله، قال: لا أقول!! وكان سفيان الثوري رحمه الله يقول لـ إبراهيم بن أدهم: [[يا إبراهيم اسأل الله تعالى أن يقبضنا على التوحيد] وكان يقول: [[أخاف أن يشتد عليَّ الأمر، فأسأل التخفيف عند الموت، فلا أجاب فأفتتن، وكان يقول: إني أخاف أن أُسلب الإيمان]] .
إنك تجد صوراً عجيبة عن الذين عرفوا الله في الرخاء فعرفهم في الشدة، صدقوا مع الله، صبروا مع الله، وآمنوا وجاهدوا في حال الرخاء، فلما كانت الشدة عند الموت، كان الله تعالى بكل خيرٍ أسرع، فحفظهم وألقى عليهم السكينة والإيمان واليقين، حتى كان المؤمن يموت بعرق الجبين، قال: الطبري وابن عساكر وابن الجوزي وابن الأثير وابن كثير وغيرهم من المؤرخين: [[لما ثقل معاوية رضي الله عنه، قال: احشوا عيني بالإثمد، وأوسعوا رأسي دُهناً، ففعلوا، وبرق وجهه بالدهن، ثم مهد له، وأجلس، وأسند، ثم قال: ليدن الناس: فليسلموا عليّ قياماً، فكان الرجل يقوم فيسلم عليه، ثم يقول: يقولون معاوية مريض وما به شيء هو أصح الناس، فلما خرجوا من عنده، قال: وتجلدي للشامتين أريهم أني لريب الدهر لا أتزعزعُ وإذا المنية أنشبت أظفارها ألفيت كل تميمة لا تنفعُ أما أبو بكر رضي الله عنه لما حضره الموت، قال: كفنوني في ثوب خلق، فإن الحي أولى بالجديد من الميت، وإنما هذا الكفن للمهلة والصديق، فقالت عائشة رضي الله عنها: لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر قال: [[يا عائشة، دعي هذا، وقولي كما قال الله تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] .
]] إن ساعة الموت ساعةَ يحضر الإنسان فيها ما كان يشغله في الدنيا من خيٍر أو شر، فالنحوي يفكر في النحو، فإذا قيل له شيء، قال: أموت وفي النفس شيءٌ من (حتى) والبياع يفكر في تجارته وبيعه فربما سام أو باع أو اشترى، وصاحب النساء والقيان والغناء ُيحضُر له ذلك، وصاحب الذكر، وصاحب الطاعة، وصاحب القرآن يختم له بذلك، حتى وهو في غيبوبته يقرأ من هذا القرآن وربما لا يتوقف أبداً حتى تخرج روحه، ولذلك يقال إن أبا طاهر القرمطي -وهو من القرامطة المعروفين -لما هجم على الكعبة، وقتل الحُجاج، وملأ بئر زمزم من هؤلاء، فلما قتل في الحجاج قتلاً ذريعاً وأتى إلى الطُّواف، فكان يقتلهم كان هناك رجل من الطائفين اسمه علي بن بابويه من العباد الطواف فكان يطوف، فضربوه حتى سقط، وكان يتمثل ويقول: ترى المحبين صرعى في ديارهم كفتية الكهف لا يدرون كم لبثوا يعني هو محب لله تعالى، ولذكره، ولبيته الحرام، ولعبادته، ولطاعته فلا يهمه ما أصابه، وأبو الوفاء بن عقيل رحمه الله تعالى، وهو من الحنابلة، من أذكياء العالم، ومن كبار العلماء والفقهاء، يقول: لي خمسون سنة، وأنا أوقع عنه- يعني عن الله تعالى- فدعوني أتهيأ لمقابلته جل وعلا.
ويروى عن عبد الأول السجزي كما ذكر ذلك ابن الجوزي وغيره، أنه لما حضرته الوفاة، قال: يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين.
اللهم ثبت قلوبنا على دينك، اللهم ثبتنا بقولك الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، ويا مصرف القلوب اصرف قلوبنا إلى طاعتك، اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، والغنيمة من كل بر، والسلامة من كل إثم، والفوز بالجنة، والنجاة من النار يارب العالمين.