التظاهر بالدين مجاراة للتيار

من ذلك أنه يتظاهر بالدين مجاراة للتيار -كما يقال- ومسايرة للركب، كحال المنافقين الذين لما رأوا أمر الإسلام قد اعتز وارتفع، وأنه قل بيت في المدينة إلا ودخله الإسلام، قالوا- كما في صحيح البخاري: هذا أمر قد توجه.

فلا حيلة في دفعه فينبغي أن نسايره، فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام، ولهذا تخونهم قلوبهم أحوج ما يكونون إليها، فمن تظاهر بشيء من ذلك، ربما ستر في الدنيا، لكنه تفضحه كروب النزع.

وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة، فيما يبدوا للناس، وهو من أهل النار! وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار، فيما يبدوا للناس، وهو من أهل الجنة!} وفي رواية أخرى: {إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها! وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها!} .

إذا الإنسان قد يتظاهر بعمل أهل النار، أو يتظاهر بعمل أهل الجنة، لكن حقيقته خلاف ذلك، فيفضح الله تعالى ما ستر في قلبه، إما في الدنيا وإما عند الموت، فمن الناس من تظاهر مجاراة للتيار ومسايرة للركب كما قلت.

ومنهم من يتظاهر خوفاً على دينه وماله، وأراد عصمة نفسه وماله من القتل بالتظاهر بالإسلام، أو حباً في الرئاسة والجاه، أو كيداً للإسلام والمسلمين، فيكون معهم ليعرف أسرارهم، أو ليشكك فيهم، أو ليغرس الريبة في قلوبهم، كما قال تعالى: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران:72] .

فقد يزول -بعد ذلك- السبب الذي من أجله جعل هذا الإنسان يتظاهر بالإسلام، فيأمن الخائف على نفسه، أو ييأس الطامع مما يريد في رئاسة، أو في جاه، أو في مال، ييئس مما يريد؛ فيبوح بالسر المكتوم، وكما قيل: صلى المصلي لأمر كان يطلبه فلما انقضى الأمر ما صلى وما صامَ إذاً: كان الإيمان عند هؤلاء الناس تظاهراً دون أن يخالط شغاف القلب، أو تستشعره النفسٍ، أو يمتلئ به الصدر، ولهذا لما سأل هرقل أبا سفيان عن النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه: هل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قال: لا، قال: وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب! إن هذا يدل على أن أولئك القوم لم تخالط بشاشة الإيمان قلوبهم، وما ذاقوا طعمه، ولا تلذذوا بحلاوته، وما أنسوا به، إنما كان هذا الإيمان تظاهراً، وتشكلاً، وتصنعاً، وتكلفاً، وتعملاً.

وكان الإيمان ستاراً يتسترون ويتترسون به، فهم يعلنونه خوفاً، أو رغبةً، أو رهبةً، أو طمعاً، أو لمصلحة دنيوية؛ أما قلوبهم فهي تغلي بمراجل الحقد والغيظ على الإيمان وعلى المؤمنين؛ فيفتضح -هؤلاء- إما في الدنيا وإما عند الموت.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015