نحن نعلم أن الإنسان لو أراد أن يسأل ملكاً من ملوك الدنيا أو أن يسأل إنساناً كرئيس دائرة، أو مسئول في جهة، لقدم لذلك السؤال بمدحه والثناء عليه، وذكر فضله السابق حتى يتوصل به إلى ما يريد، فما بالك إذا كان العبد يريد أن يسأل الله عز وجل، والله تعالى لا يمكن أن يحيط العباد بكنه فضله وكرمه وجوده، ولذلك كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث عائشة أنها وقعت يدها على قدميه صلى الله عليه وسلم وهما منصوبتان في المسجد، وهو يقول: {اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك، لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك} فسبحان من جعل عجز العاجزين عن شكره والثناء عليه شكراً لهم، كما جعل معرفة العارفين بأنهم لا يدركون كُنه صفته إيماناً منهم، ولذلك جاء في حديث فضالة بن عبيد أن رجلاً دخل المسجد، فصلى فقال: رب اغفر لي وارحمني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {عجلت أيها المصلي، إذا دخلت فقعدت في الصلاة فاحمد الله، وصلِّ على النبي صلى الله عليه وسلم ثم سل حاجتك ثم جاء رجل آخر، فصلى، فحمد الله وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم سأل حاجته، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أيها المصلي سل تجب، أو ادع تجب} والحديث رواه الترمذي وأبو داود وسنده صحيح.
فينبغي لمن أراد أن يدعو أن يقدم بين يدي دعائه بحمد الله والثناء عليه عز وجل، ولذلك علمنا الله تعالى في سورة الفاتحة أن العبد يدعو فيبدأ بالذكر والثناء قبل الدعاء، فيقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:2-4] وهذا كله ثناء على الله عز وجل بفضله، وإنعامه، وكرمه، وجوده، وأسمائه، وصفاته وفضله الدنيوي والأخروي، ثم يقول بعد ذلك: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] ثم يبدأ بالدعاء {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] .
وهكذا ينبغي للداعي، وذلك أن الثناء هو أعظم من الدعاء، ولذلك جاء أمية بن أبي الصلت وهو شاعر من شعراء الجاهلية، إلى رجل من أجواد العرب وكرمائهم المشهورين، وهو عبد الله بن جدعان وكان رجلاً جواداً، سمحاً، كريماً في الجاهلية، وكان له داعيان في طرف مكة: داعٍ في الشمال، وداعٍ في الجنوب، يقول: يا ناس تعالوا للطعام في دار عبد الله بن جدعان؛ ولذلك مدحه الشاعر بقوله: له داعٍ بمكة مشمعلٌ وآخر فوق دارتها ينادي إلى قطع من الشيزى ملاء لباب البر يُلبَك بالشهادِ يعني يطعم الناس البر مصحوباً بالعسل وغيره من أطايب الطعام بلا مال، بل يدعو الناس إلى ذلك، وجاءه أمية ابن أبي الصلت يطلب حاجة فقال له: أأذكر حاجتي أم قد كفاني حباؤك، إن شيمتك الحباء إذا أثنى عليك المرء يوماً كفاه من تعرضه الثناء هذا في شأن المخلوق، يقول: هل احتاج أن أقول لك إني أريد كذا وكذا، أو يكفيني ما هو معروف من جودك وكرمك.
فالعبد يقدم بين يدي دعائه لله عز وجل: بالثناء على الله تبارك وتعالى، وكذلك الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك نُقِلَ عن بعض الصالحين أنه قال: إذا أردت أن تدعو الله عز وجل فصل على النبي صلى الله عليه وسلم في أول دعائك، ثم صلِّ على النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما تنتهي من الدعاء؛ فإن الله تبارك وتعالى يقبل صلاتك على نبيه صلى الله عليه وسلم، وهو أكرم من أن يرد ما بين هاتين الصلاتين، وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه علي وعمر وجاء موقوفاً ومرفوعاً: {كل دعاء محجوب حتى تصلي على النبي صلى الله عليه وسلم} وجاء في حديث فضالة بن عبيد السابق: أن النبي عليه السلام أرشد المصلي إلى أن يذكر الله، ويحمده، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، قبل الدعاء، ولا شك أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الدعاء آكد من الصلاة عليه في أول الدعاء.