إذا كان الإنسان منفرداً سواء أكان في صلاة أو في غيرها، فإنه يشرع له أن يسر بالدعاء، ولذلك قال الله عز وجل: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف:55] والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في حديث أبي موسى المتفق عليه وقد سمع الناس يدعون ويرفعون أصواتهم: {أيها الناس! اربعوا على أنفسكم -يعني ارفقوا بأنفسكم- إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إنكم تدعون سميعاً بصيراً} فينبغي للعبد إذا دعا الله عز وجل ألا يبالغ في رفع صوته، وله في ذلك قدوة وأسوة بعبد الله زكريا {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً} [مريم:2-3] يعني بينه وبين الله عز وجل، ولذلك يقول الحسن البصري رحمه الله: [[لقد أدركت أقواماً ما كان على الأرض عمل يقدرون أن يكون سراً، فيكون جهراً أبداً، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء فلا يسمع لهم صوتٌ، إن هو إلا الهمس بينهم وبين ربهم عز وجلً]] .
وقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله لإخفاء الذكر والدعاء فوائد: أن ذلك أعظم إيماناً؛ لأن العبد إذا أسر فمعنى ذلك أنه يعلم أن الله تبارك وتعالى يعلم السر وأخفى، فهذا أقوى إيماناً.
أنه أعظم في الأدب والتعظيم، فإن الإنسان لو أراد أن يسأل ملكاً من ملوك الدنيا ما كان يرفع صوته بحضرته، بل كان يهمس ويخفض صوته، فالله عز وجل أحق أن يتأدب معه العبد في دعائه.
أنه أبلغ في التضرع والخشوع، بحيث أن العبد الذليل السائل، يخشع منه كل شيء، تخشع جوارحه، وتدمع عينه، ويخشع صوته أيضاً.
أنه أبلغ في الإخلاص وأبعد عن الرياء.
أنه دال على قرب صاحبه من الله عز وجل فكأنه لشعوره بأن الله عز وجل قريب منه يناجيه مناجاة القريب، لا يناديه نداء البعيد، فهو يشعر أن الله تبارك وتعالى قريب، كما أخبر: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:186] لذلك يناجيه مناجاة القريب، لا يناديه بصوت مرتفع مناداة البعيد.
أنه أدعى إلى دوام الطلب والسؤال؛ لأن العبد إذا بالغ في رفع صوته ملّ وتعب، وسئم، وأصابه من ذلك ضعف وعجز عن الاستمرار في الدعاء.