تعلم الصمت

أما كيف تتعلم الصمت، فلا شك أن هذا الأمر فيه عسر، ويحتاج إلى أمور منها: الوسيلة الأولى: أن يزن الإنسان الكلام قبل أن يخرجه، فإن وجد أن الكلام له قاله، وإن وجد أن الكلام عليه تركه، وهذا يحتاج أن يتعود الإنسان إلى ألا يقول كل ما يخطر بباله، فليس كل ما خطر ببالك من شيء قلته، لا، انتظر إذا أردت أن تقول شيئاً ففكر في هذا الكلام، هل هو حسن أم قبيح، لك أم عليك؟ فإن كان حسناً قله، وإن كان خلاف ذلك دعه، وإذا شككت فيه فدعه أيضاً، لأن السلامة أولى.

الوسيلة الثانية: أن يحاسب الإنسان نفسه على ما مضى، فكلما قال الإنسان قولاً، أو تكلم في مجلس، أو نطق بكلمة، فليرجع إلى نفسه، يجعل على نفسه حسيباً ينظر، ماذا أردت بهذه الكلمة؟ هل كانت حسنة أو غير حسنة؟ ربما كان غيرها أحسن منها، حتى يعود نفسه، ويصحح ويستفيد من أخطائه، والناس يستفيدون من أخطائك، فلماذا لا تستفيد أنت من أخطاء نفسك؟ الوسيلة الثالثة: أن يتخذ له صاحباً يحصي عليه عيوبه، فاجعل لك زميلاً أو صاحباً من أصحابك الذين تثق بهم، يحصي عليك وينبهك، على ما قد يبدر منك من خطأ، أو زيادة في القول، أو تسرع أو ما أشبه ذلك، وحاول أن تقبل ما يقول؛ لأنه ربما لا يعرف الإنسان خطأه، فالإنسان يحتاج إلى مرآة.

شاور سواك إذا نابتك نائبةٌ يوماً وإن كنت من أهل المشوراتِ فالعين تبصر فيها ما دنا ونأى ولا ترى نفسها إلا بمرآة أنت لا ترى نفسك إلا بمرآة، فاجعل أخاك في الله مرآة لك، يحصي عليك عيوبك، وكذلك أنت تحصي عليه عيوبه، بالأسلوب المناسب الحسن، لا يخرج إلى حد الإفراط، والزيادة التي قد تمقت وتبغض.

الوسيلة الرابعة: أن يعوِّد الإنسان نفسه على القول الطيب، وكثرة الكلام الحسن، يقول عبد الله بن المبارك رحمه الله: اغتنم ركعتين زلفى إلى الله إذا كنت فارغاً مستريحا وإذا ما هممت بالقول بالباطلِ فاجعل مكانه تسبيحا فعود نفسك كثرة الذكر، والاستغفار، والكلام الطيب، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى يصبح عادةً لك، ولذلك الإمام البخاري، رحمه الله عود نفسه على الكلام الحسن، حتى قال رضي الله عنه: [[والله ما اغتبت أحداً منذ علمتُ أن الغيبة حرام]] رضي الله عنه، حتى حين كان يتكلم في الرجال في الجرح والتعديل، كان يتورع ويتحاشى عن الألفاظ الشديدة، مثل كذَّاب، أو وضَّاع، أو متروك، أو ما أشبه ذلك وأقصى ما يستخدم البخاري، يقول: فيه نظر، ولذلك يقول أهل العلم: إذا قال البخاري عن رجل: فيه نظر، فهو متروك لا يقبل حديثه، هذه أشد ألفاظ الجرح عنده، وقد ينقل عنه خلاف ذلك، لكن غالب ما ينقل عنه يكون نقله عن غيره كما قال بعضهم: كان رحمه الله إذا أراد أن يتكلم في رجل، يقول: فيه نظر، وهذا من باب النصيحة، لأنه لا يريد أن يعود نفسه، وبعض الناس يقول: أنا أغتاب مثلاً أهل البدع، أو أغتاب الضالين أو المنحرفين، فيتوسع في ذلك حتى يكون هذا ديناً له، ويتجرأ لسانه على الوقيعة في الصالحين والطالحين، والمنحرفين والمستقيمين، ويجد لنفسه من التأويلات والحجج والأعذار، ما يخرج به من العتاب والتوبيخ.

الوسيلة الخامسة: وهي أن يراقب الإنسان ربه، ويتذكر قول الله عز وجل: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف:80] .

فمن يعلم أن الله تعالى يعلم سره ونجواه، ويراقبه في السر والعلن، فإنه لا يتكلم إلا بحق، ولذلك قال بعض العارفين: إذا تكلمت فاذكر أن الله تعالى يسمعك، وإذا سكت فاعلم أن الله تعالى ينظر إليك ويراك، وبذلك لا يتكلم الإنسان إلا في خير.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015