فالأولون كانوا يتكلمون بكلام معدودٍ محدود، تبعاً لهدي رسولهم صلى الله عليه وسلم، الذي كان يتكلم بكلام فصلٍ يحفظه من سمعه، فقد مَرَّ عمر رضي الله عنه يوماً بـ أبي بكر كما روى مالك في الموطأ، وهو يمسك بلسانه ويلويه، فقال عمر: [[مه يا أمير المؤمنين]] ! كأنه استغرب الأمر، كيف تصنع هذا؟! فقال أبو بكر رضي الله عنه: [[هذا الذي أوردني الموارد، هذا الذي أوردني الموارد]] .
واقرءوا سيرة أبي بكر رضي الله عنه، فانظروا هل تجدون فيها كلمة واحدة يعتذر منها؟ أبداً!! منذ أسلم لا يعلم عنه رضي الله عنه إلا كل خير، ما نُقِلَ عنه أنه قال كلمة واحدة يُندم عليها أو يُعتذر منها، إلا ما يتبادر من الإنسان في حالة غضبه، وهذا أمر طبيعي، كما روى البخاري في صحيحه أن أبا بكر رضي الله عنه، غضب يوماً على ولده لأنه لم يكرم الضيوف ولم يقدم لهم العشاء، فسبه رضي الله عنه وقال: [[يا غنثر]] كلمة سب، ثم استغفر، وأكل الطعام مع ضيوفه، وتاب إلى الله عز وجل، وذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يخبره بالأمر، فلا تكاد تجد له كلمة أخرى غيرها، ومع ذلك يمسك بلسان نفسه ويقول: [[هذا الذي أوردني الموارد]] .
وهذا عمر رضي الله عنه كان يوماً جالساً في رهطٍ من الناس فيهم الأحنف بن قيس فقال عمر للأحنف: [[من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه قل ورعه، ومن قل ورعه قل حياؤه، ومن قل حياؤه مات قلبه]] لاحظ هذه السلسلة من العيوب والذنوب، إذا كثر كلامك، كثرت الأخطاء، فلا شك أن كثرة الكلام سبب لكثرة الأخطاء، فإذا كثر الخطأ، قل الورع عند الإنسان، فأول مرة يمكن أن يندم الإنسان إذا قال كلمة ليست حسنة ويتمنى أنه لم يقلها، لكن في المرة الثانية تصبح هينة عليه، والثالثة لا يبالي بها، والرابعة ربما يتجرأ عليها؛ لأن كثرة الإمساس تقلل الإحساس، فإذا قل ورعه قل حياؤه، وأصبح لا يخاف من الخالق، ولا يستحي من المخلوق، فإذا قل حياؤه، مات قلبه، وإذا مات قلبه دخل النار!! إن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كما روى عنه جماعة من الأئمة كـ ابن أبي الدنيا، وأبي نعيم، والطبراني، وأحمد، ووكيع، وهناد، كان يقول: "والله الذي لا إله غيره، ما شيء أحق بطول سجن من لساني" فيحتاج الإنسان إلى أن يسجن لسانه في فمه حيناً من الوقت، ولا يحتاج إلى أن يضع في فمه حجراً، كما نقل ابن الجوزي أو غيره عن بعض الصالحين، أنه كان زمانا طويلاً يدرب نفسه على الصمت، عن طريق أنه يضع في فمه حجراً، لا يخرجه إلا إذا أراد أن يأكل أو يصلي، هذا لا نحتاج إليه، إنما نحتاج إلى إنسان يكون قلبه يقظاً حياً، فيحبس لسانه في فمه، ويحاول أن يعود لسانه على الصمت، وسيأتي إن شاء الله ذكر بعض الوسائل التي تعين الإنسان على ذلك.
والإمام مالك رحمه الله إمام دار الهجرة، ذُكر عنده رجل، فقيل إنه رجل صالح، كثير الصيام، والصلاة، والعبادة، فقال: "نعم، ولكنه يتكلم كلام شهرٍ في يوم" فعابه بذلك، يعني كثير الهذر، وربما كان هذا سبباً في رد الإمام مالك لهذا الرجل، وعدم قبوله منه، والإمام مالك لم يتكلم في هذا الرجل عبثاً، أو غيبةً كلا؛ إنما تكلم لأسباب قد يكون منها أنه كان في مقام جرح أو تعديل لهذا الرجل، فتكلم بمثل هذا الكلام.
وكثير من الصحابة رضي الله عنهم كانوا يثنون على الصمت، وترك الكلام فيما لا جدوى منه ولا طائل تحته.