الكلام الذي يقوله الإنسان وقد يكون جرحاً لغيره، كما يقول الشاعر الأول: وجرح اللسان ليس كجرح اليد فقد تجرح الإنسان بالقول أشد مما تجرحه باليد أو بالسيف أو بالسنان، ولذلك روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده} هذه صفة المسلم، ومن أبرز وأخص خصائصه وصفاته، أن يسلم المسلمون من لسانه ويده، فلا يقع في أعراضهم، فيشتم هذا، ويسب هذا، ويطعن هذا، ويعتدي على هذا، ويغتاب هذا، وينم هذا، وما أشبه ذلك، فهذا ليس مسلماً حق الإسلام، وإن كان يدعي الإسلام، كما أن المسلم الحق لا يعتدي على المسلمين في أموالهم أو أجسادهم بضرب أو سرقة أو اختلاس، أو ما أشبه ذلك، ولهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة كما في صحيح البخاري: {لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن} يعني أنه عند السرقة يضيع الإيمان فينسى الإيمان، ويغيب عنه الخوف من الله تعالى فيسرق، وليس معنى ذلك أنه كافر إذا سرق، كلا، بل هو مسلم لكنه لو كان يتذكر رقابة الله تعالى عليه لما سرق.
ولقد تعجب معاذ بن جبل رضي الله عنه من هذا، تعجب من كون الإنسان يؤاخذ بما يتكلم به ويحاسب على ذلك فقال: {يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به} ؟! يتعجب أننا نتكلم بكلام لا نقصد من ورائه شيئاً هل نحن مؤاخذون به؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {ثكلتك أمك يا معاذ!} وهذا دعاء لا يقصد به حقيقة معناه {وهل يكب الناس في النار على وجوههم، أو قال على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم} والحديث رواه أحمد والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، وابن ماجة، والحديث يدل دلالة ظاهرة، على أن أكثر ما يدخل الناس النار هو اللسان.
وقد جاء هذا صريحاً في حديث أبي هريرة الذي رواه الترمذي، وغيره، وهو صحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ فقال: {تقوى الله وحسن الخلق} وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار؟ فقال: {الأجوفان: الفم والفرج} وذلك لأن اللسان يقع به الشرك بالله، كما قال الذين أشركوا حين عدلوا بالله تعالى غيره، ويقع به القول على الله تعالى بغير علم، وهو قرين الشرك في القرآن كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33] .
فالمفتي بغير علم نطق بلسانة، والمتكلم في الدين بغير علم تكلم بلسانه، والمحرم الحلال نطق بلسانة، ومحلل الحرام نطق بلسانه، وكل هؤلاء يتكلمون عن رب العالمين وعن شريعته، فهم موقعون عنه كما سماهم ابن القيم في كتابه إعلام الموقعين عن رب العالمين، لكنهم يوقعون بالباطل، ولذلك يدخلون النار، ولذلك جعلها الله تعالى قرين الشرك.
فاللسان هو سبب شهادة الزور، التي هي قرينة الشرك بالله، كما في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، والغيبة، والنميمة، والكذب، والفحش، والسب، والبذاءة، والسحر، والقذف، كل هذه من الكبائر التي تمارس وتعمل باللسان، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: {وهل يكب الناس في النار على وجوههم، أو قال: على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم} إذاً، الكلمة ليست كلمة يطير بها الهواء إنما كما قال الله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] .
قابلت يوماً من الأيام أحد الشباب الذين كانوا منحرفين، ونرجو أن يكونوا ممن تاب الله عليهم، فذكر لي أن من الأسباب التي دعته لأن يراجع موقفه ويعيد النظر فيما كان عليه، يقول: كنت يوماً من الأيام في مصر في القاهرة، وأريد أن أسافر إلى المملكة، وكانت معي زوجتي، فذهبت إلى المطار ولي أصدقاء كثيرون في المطار يريدون أن يسهلوا لي الأمر، فقالوا لي: أبداً لا تقلق فالموضوع هين والأمر عادي، يقول: سبق لي في مرات كثيرة جداً أنني آتي وأذهب بصورة طبيعية يقول: رتبتُ الأمور كلها، وسار الموضوع طبيعياً، وكانت زوجتي متخوفة ألا نسافر فقالت: إن شاء الله نسافر، فقلت لها: سنسافر -سنسافر أي بدون إن شاء الله!! فقد قال كلمة بشعة استثقل أن أقولها لكنه قال: سنسافر- قال: فلما وصلت إلى باب الصالة الذي يدخل منه المسافرون، أخذ الضابط الموجود بالباب تذكرتي فنظر إليها ثم نظر إلي ثم مزقها وأنا أنظر، وألقى بها في القمامة، وقال: هذه لا قيمة لها ارجع، يقول: فصدمت ورجعت ورجعت زوجتي معي وهي تبكي، فذهبت إلى رجل آخر، فقال لي: الأمر هين وبعد ساعتين أو ثلاث هناك رحلة أخرى إلى جدة، ونيسر لك الأمر، يقول: وانتظرنا، فبعد قليل أتيت إلى الرجل فاعتذر مني، وقال: إن الأمر ليس لحسابنا لقد حدثت أمور فوق ما كنا نتصور ونتوقع، يقول: فذهبنا تلك الليلة ونمنا في أحد الفنادق، فيقول: من ذلك الوقت بدأت أعيد النظر، وأحسست بأن كلمتي السيئة التي عطلتُ فيها المشيئة هي السبب في تعطيلنا عن السفر، الذي اعتدنا أن نذهب بصورة طبيعية من خلاله.