إنك تجد في القرآن الكريم أن الله عز وجل ذكر على لسان موسى عليه السلام فصاحة هارون قال موسى عليه السلام كما جاء في القرآن الكريم: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُون} [القصص:34] .
فوصف أخاه هارون بالفصاحة، وبين أن هذه الفصاحة نعمة، يستفاد منها في الدعوة إلى الله عز وجل، فإن الإنسان الفصيح البليغ القادر على الحديث والتعبير، يكون لديه قدرة على الدعوة إلى الله عز وجل وإقناع الناس، وكم من متحدث أو خطيب إذا تكلم سكت الناس وأصغوا، وربما استثار عواطفهم، وربما غير كثيراً من أفكارهم ومفاهيمهم، وربما يهتدي إنسان بسبب كلمة سمعها، فالفصاحة والبلاغة سبب للهداية أحياناً، ولذلك وصف موسى بها أخاه هارون فقال: (وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً) .
وفي مقابل ذلك وصف الله عز وجل جماعات من غير المؤمنين بالفصاحة والبلاغة والتقعر في الكلام، فقال مثلاً عن الكفار، كما في قوله تعالى: {وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف:58] .
فوصفهم بالخصومة والجدل، وهذا دليل على أنهم يتكلمون ويعبرون ويعربون، وهذا معروف عند العرب، فوصفهم بذلك، كما وصف به سبحانه وتعالى المنافقين في مواضع، كما في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون:4] أي فصحاء بلغاء، يملكون أزَِمَّة القول، فإذا قالوا لم يملك الناس إلا أن يستمعوا وينصتوا لهذا القول البليغ، الذي هو في الذروة من الفصاحة والبيان وكذلك قال عز وجل عن المنافقين: {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} [الأحزاب:19] .
إذا جاء الخوف -كما في أول الآية- رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت، خائفون فإذا ذهب الخوف جاءوا يتكلمون ويعتذرون، ويتوسعون في الكلام، حتى ربما أقنعوا بعض المؤمنين، بأنهم كانوا معذورين فعلاً، وأنهم كانوا صادقين فيما يقولون، وكذلك قال الله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} [البقرة:204] .
أي يأتي إليك يتحدث ويقول لك: يا أخي أنا كذا وأنا كذا وأنا كذا وأنا أحب الله ورسوله والمؤمنين، وفيَّ وفيَّ وفيَّ، ثم إذا انتهى من كلامه، قال: يا أخي أنا أشهد الله على أني ما قلت لك إلا حقاً وصدقاً، ولا تظن أني منافق أو مخادع أو مجامل، والله عز وجل ذم مثل هذا الصنف، فقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [البقرة:204] وذلك لجماله وفصاحته، وأنه يكسوه بالألفاظ الحلوة {وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:204-205] .
وكثيراً ما تجد مثل هذا الصنف من الناس، فيخدعك لأول مرة، لأنك تستبعد أن يوجد إنسان يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم يجرؤ مثلاً على الحلف الكاذب، وعلى تحسين الكلام الكاذب، وعلى ادعاء القول الكاذب، ولكنك إذا تتبعت بعض حال هؤلاء وجدتهم والعياذ بالله على أسوأ حال، وقد رأيت أصنافاً من الناس يجلس بين يديك، حتى والله إن منهم من يبكي، فتذرف عيناه الدموع، ويتحدث ويعتذر، ويقول: الأمر كذا وكذا، وأنا وأنا، ويثني على نفسه فوق ما يخطر ببالك، فإذا تحققت من أمره وجدت هذا الرجل والعياذ بالله ماكراً غداراً لا عهد له ولا ذمة، ويقول بلسانه ما ليس في قلبه، فهذا صنف من المنافقين والمخادعين فضحهم الله عز وجل، وذكر أن عندهم فصاحة وبلاغة وتوسعاً في المنطق، لكن هذا لا ينفعهم.