فالمَعلم الأول -الذي أحب أن ألفت النظر إليه بعد ذكر هذه النماذج العابرة-: هو الإشارة إلى أننا نشهد في العالم الإسلامي اليوم محاولات جادة لإقناع المسلمين بأن الفن ما هو إلا وسيلة للترفيه عن النفس، وقضاء الفراغ والتسلية، وأنه أمر لا يمانع الإسلام منه ما دام في حدود معينة، وبغض النظر عن أعداد كبيرة من الصحفيين وغيرهم ممن يضربون على هذا الوتر، فإننا نجد عدداً ممن ينتسبون إلى دائرة الدعوة الإسلامية، أو العلم الشرعي، أو المؤسسات الدينية، ينساقون وراء هذا الأمر، ويفرح بتصريحاتهم تلك الصحفيون فينشرونها.
وبناءً على ذلك قد يقع التباس عند كثير من الناس؛ فيتصورون أن كون الإنسان -مثلاً- يقوم بأغنية ليست أغنية سيئة -وإن كانت مصحوبة بالموسيقى- أمر لا بأس به، أو كون الرجل (أو حتى المرأة) يمثل دوراً ليس فيه إخلال بالحياء- وإن كان ضمن مسرحية أو تمثيلية رديئة أو سيئة- أنه الآخر أمر مناسب، وأن الإنسان قد يمثل اليوم دوراً في مسرحية وغداً تجده يذهب للحج والعمرة، وقد يكون الآن في صالة للغناء، وبعد قليل تجده يتجه للقبلة ليؤدي الصلاة، واليوم على موعد للتصوير وغداً تجده يقرأ القرآن! فهذا الانفصام الهائل الذي نجده في شخصيات كثيرة من الناس أمر يجب ألا يغيب عن البال، فنحن الآن نسمع من كلمات بعض التائبات أن الواحدة منهن كانت تصلي أحياناً! كانت تصلي حتى وهي تمارس هذه الأدوار!! وتحس بالندم والخطأ على مثل هذا الأمر، فكوننا نتحدث عن أن فلاناً تاب وأن فلانةً تابت يجدد للناس الشعور المستقر في أذهانهم أن الإسلام له موقف صريح من مثل هذه الوسائل والأعمال التي يمارسها الناس، وهذا الموقف الصريح يدركه جمهور الناس حينما تكون فطرتهم سليمة غير معرضة للتشويه ولا للبس الذي يمارسه بعض الناس، سواء أكانوا من المنتسبين إلى الدائرة الإسلامية، أم من غيرهم ممن يتطفلون عليها.
وكثيراً ما نقرأ في الجرائد مقالات ومقابلات وكتابات تتحدث عن أن المتزمتين هم الذين يحرمون الغناء، والتمثيل، والموسيقى، إلى غير ذلك، وهذه الأشياء مهما ضحكنا منها، وسخرنا منها، إلا أنها تفعل فعلها في نفوس الناشئة، وتجعل عدداً من الناس يقعون في مثل ما وقعت فيه هؤلاء الممثلات.
فكونه يعلن أن فلانة تابت وأن فلاناً تاب يقول للناس بالخط العريض: يا ناس انتبهوا! فإن الغناء والتمثيل وهذه الأعمال كل الفطر السليمة تقول: إنها أمر لا يرضاه الله ورسوله، بل حتى غير المسلمين يرفضونها أحياناً؛ لغرض آخر سأذكره بعد قليل.
إذاً لا داعي لأن نخادع أنفسنا، ونقول: هذه أشياء إذا كانت في حدود الفضيلة، وفي حدود، وفي حدود! هل أصبحت الفضيلة ماركة مسجلة نضحك فيها على أنفسنا؟! أي غناء يمكن أن يكون غناء دينياً؟! وأي تمثيل -اليوم- يمكن أن يكون في حدود الفضيلة؟! إن الجميع يعرفون ماذا يعرض على أعين الناس! ومن الغريب أن بعض المشتغلين في هذا المجال -حتى من غير المتدينين- ومن الذين لا يزالون ضحايا لهذه الأمور، يقولون: إن ما يقدم من أعمال جادة لا يعدو ثلاثة في المائة؛ فما بالك بالأعمال المقبولة من الزاوية الإسلامية؟! ربما نستطيع أن نقول: إنها صفر بالمائة أو أقل من ذلك إن كان هناك أقل من ذلك، فهذا المعْلَم لا بد من لفت النظر إليه.
ومما يلفت النظر في المعْلَم نفسه أننا نجد أن أولئك التائبين كانوا يعبرون عن مشاعر مرة كانوا يشعرون بها أثناء ما كانوا يقومون بهذه الأعمال، وقبل قليل كانت إحداهن تقول: إنني أشعر بالتناقض بين شخصيتي الحقيقة وبين الدور الذي أمثله أمام الناس، والأخرى تذكر المرارة التي تحس بها حين كانت تمارس هذا العمل أمام جماهير الرجال، ووسط الكئوس، وكيف أنها كانت تحس بأنها دمية وجثة تتحرك بلا معنى.