هل تريد أن نكون صرحاء معك؟ إذاً فاسمع.
قلنا لك يوماً: يا أخانا المعلم يا أيها الخريج اقصد القرى النائية, والمناطق البعيدة التي يعشعش فيها الجهل، ولا يوجد فيها بصيص من نور, لا عالم ولا مفتٍ ولا خطيب ولا مرشد ولا داعية, ولا مدرس قرآن, ولا معلم حديث, فاقصد تلك القرى وعلم فيها, واحتسب الأجر عند الله, وإن كانت بعيدة, وإن كان طريقها غير معبد, وإن كان فيها نقص في الخدمات, فامتنعت وتعذرت بظروف الأهل وظروف الزوجة, ومشاغل الأب ورغبة الوالدة, وغير ذلك من الأسباب والحيل والحجج التي تذرعت بها.
ثم رأيناك وقد ضاقت المدارس, وأصبح لزاماً عليك أن تعين في منطقة نائية بعيدة, فرأيناك قد تقبلت ذلك كله, وابتعدت وشطّت بك الديار, ونأى بك المزار, لماذا؟ لأنك مصر على التعليم, حيث فيه الميزات المادية ما ليس في غيره, ونحن نقول بقاؤك في التعليم خير, لكننا كنا نتمنى أن تكون تضحيتك تلك من أجل الله تعالى وفي سبيل الله.
ثم نحدثك اليوم وقد أصبحت نائياً بعيداً, مضطراً لذلك غير مختار, لماذا أنت مرتبط بطينة بلدك؟ تعد العدة وتخطط وتسعى وتتصل بكل من تعرف, وتحاول أن تجهز الوساطات والشفاعات, حتى تنتقل إلى بلدك مرة أخرى, وتعود إليها, لهذا لم نرك فتحت درساً لتحفيظ القرآن, ولا درساً لتعليم العلم الشرعي, ولا قمت بنشاطات ومشاريع خيرية, ودعوية في منطقتك, ولا خطبت الجمعة, ولا درست العلم, ولا قمت بمشروع توزيع الشريط الإسلامي, ولا مشروع لتوزيع الكتاب, ولا قامت زوجتك بدور مع النساء في تعليمهن, وإرشادهن, وتوجيههن, لماذا؟ لأن عينك على بلدك, ففي كل إجازة أنت تخطط وتسعى إلى الانتقال.
يا أيها المعلم ما دمت قد وضعت قصراً بغير اختيارك إلى تلك المنطقة النائية, فلماذا لا تحتسب الأجر عند الله تعالى, وتقول: ما دمت درست فيها, على الأقل أجلس خمس سنوات, تكون كافية للتعليم والتوجيه والإرشاد, وتخطب وتعلم وتدرس, ليكتب الله تعالى لك أجر هؤلاء القوم الذين هدوا على يديك, وتعلموا منك, وحفظتهم آية من كتاب الله, أو حديثاً من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم, أو حكماً من الأحكام التي يجهلونها, أو عقيدة لم يسمعوا بها من قبل, أو دفعت عنهم منكراً كان قائماً موجوداً متوارثاً بينهم, أو نتيجة لتأثير الإعلام أو غير ذلك مما هو موجود وقائم.
إن الكثير من المناطق النائية والقرى والهجر تعيش جهلاً مطبقاً يحتاج حتى إلى أقل طالب علم, هم لا يحتاجون إلى عالم غزير العلم, أو إلى مفتٍ يشار إليه بالبنان, من كان يحفظ جزء عمّ, ويعرف الأربعين النووية, ويعرف كيف يقيم الصلاة, ويعرف الأحكام الضرورية, فإنه يستطيع أن ينفعهم بذلك نفعاً عظيماً -بإذن الله تعالى- وقد ذهب إليهم أقوام من سائر الناس, ليسوا من المبرزين ولا من المقدمين ولا من الأوائل, ونفع الله بهم نفعاً عظيماً.
أما أنت في مدينتك العامرة بالدروس, العامرة بالحلق, فأنت لا تعدو أن تكون فرداً ضمن جمهور يستمعون إلى محاضرة, أو طالباً ضمن درس فيه عشرات أو مئات, أو واحداً ضمن أعداد كبيرة من الدعاة, فكيف رضيت بالقليل على الكثير, لماذا نكون طموحين في أمور الدنيا, ولا نكون طموحين في أمور الدين؟! هل تريد منا أن نصدق أنه يوجد من بين المربين والمدرسين, من يضحي من أجل الدنيا ومن أجل زيادة الراتب ولا يضحي في سبيل الله تعالى؟! قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة:38] نعم هذه الآية خوطب بها المؤمنون في شأن الجهاد, وسماها لله تعالى نفيراً، كما قال: {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ} [التوبة:38] .
لكن هل تريد أن أقدم لك دليلاً على أن مسألة التعليم والدعوة والتدريس مع الإخلاص أنها هي أيضاً من النفير؟ بنص كلام السميع البصير, يقول الله جل وعلا: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122] عفواً أيها المدرس الكريم, فإنما هذا العتاب نتيجة المحبة والتقدير للجهد الكبير الذي تبذله في هذا المجال الخطير.