ومع هذا وذاك, فأنت وريث النبي صلى الله عليه وسلم في علمه وعمله, إن كنت من المخلصين الصادقين، فأما أنك وريثه في علمه فنعم, أنت قد عقلت علماً ووعيته، وأول ذلك علم الشريعة، وعلم الاعتقاد, وعلم الحلال والحرام، الذي به النجاة في الدار الآخرة وبه الفلاح والسعادة في الدنيا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو الدرداء , وأخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة وغيرهم, قال النبي صلى الله عليه وسلم: {وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم, فمن أخذه أخذ بحظ وافر} وهذا حديث عظيم جليل, شرحه الحافظ ابن رجب في رسالة مفيدة مطبوعة، ولهذا جاء في صحيح البخاري: [[أن ابن عباس رضي الله عنه سُئل: هل ترك النبي صلى الله عليه وسلم من شيء؟ قال: لا, ما ترك إلا ما بين الدفتين]] يعني: المصحف, ما ترك إلا العلم الشرعي, فإنه لم يورث ديناراً ولا درهماً, بل ما ورَّثهُ من المال وتركه صلى الله عليه وسلم فهو صدقة, وإنما ميراثه العلم الشرعي الذي أنت وأمثالك تشتغلون به وتتعاطونه تعلماً وتفقهاً ونشراً وغير ذلك, فهذا ميراثك من علم النبي صلى الله عليه وسلم، وأما ميراثك من عملك فأنت تربي الناس بهذا العلم، وتدرسهم هذا الهدي, كما كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يفعلون، قال الله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران:79] .
إذاً: فتدريس الكتاب وتعليمه ونشره, وتربية الناس عليه, هذه كانت مهمة الأنبياء, ومن قام بها فهو وريثهم, سواء كان اسمه مدرساً أم معلماً أم أستاذاً أم خطيباً أم داعية أم أي شيء آخر.
فأنت إذاً -إن صدقت- ورِيثُ النبي صلى الله عليه وسلم بحصولك على علم, ووريث له بقيامك بمهمة التدريس والتعليم, فحري بك أن تكون وريثاً له -أيضاً- في خلقك وعملك وهديك, فإن العلماء ما برزوا بمعلوماتهم فحسب, بل برزوا بعلمهم وعملهم, فهذا الحسن البصري , قال فيه بعض السلف: "ما غلبهم الحسن البصري بمزيد علم, فعلمه علمهم -يعني ما كان عنده فهو عندهم- وإنما غلبهم بالزهد في الدنيا" إنه ليس ثمة عمل آخر يعدل التدريس في أهميته وجدواه.
وإن مما يبهج النفس ويسر القلب, أن يكون عدد كبير من العاملين في هذا الحقل هم من الصالحين والغيورين على دينهم, والغيورين على مستقبل أمتهم وبلادهم, فإذا انضم إلى هؤلاء جهد وحماس كبير من هؤلاء, لضمنَّا بإذن الله تعالى مستقبل الأجيال, وتأكدنا من استمرارية الدعوة الإسلامية في نمائها وتوسعها وترسخ جذورها, وإنه لكائن إن شاء الله تعالى, وإن غداً لناظره قريب.