الوصية الرابعة: هذه البلاد التي تقيمون فيها تستقبل مسلمين من كل الجنسيات ومن كل الدول، إنها فرصة لتحقيق معنى الأخوة الإسلامية، قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] وقال سبحانه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة:71] .
أحبتي الكرام: إن من السهل علينا أن نتحدث نظرياً عن الأخوة، وأن يحول هذا الحديث إلى أناشيد نترنم بها أحياناً أو كلمات نجريها على ألسنتنا، لكن المحك الحقيقي والعملي يبرز خلالاً عظيمة جداً في حقوق الأخوة فيما بيننا.
نعم، إن مناصرة قضايا المسلمين في كل مكان وتأييد المسلمين في حال القوة أو في حال الضعف دليل من دلائل الأخوة، فأما تأييد المسلمين في حال القوة والنجاح فهو منطلق من منطق حديث المصطفى عليه الصلاة والسلام الذي يقول: {المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وشبك صلى الله عليه وسلم بين أصابعه} فهذا حال القوة، حال البناء الذي يشد بعضه بعضاً، ويقف بعضه إلى جانب بعض، فهكذا المسلمون في حال القوة، فكل الأعمال، وألوان البذل، والعلم، والدعوة، والإصلاح والجهاد التي تقع في أي رقعة من بلاد الإسلام، بل من بلاد العالم يجب أن نكون أنصاراً لها قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ} [الصف:14] .
ومثل ذلك أيضاً الوقوف بجانب المسلمين المضطهدين في كل مكان في حال الضعف، من منطلق الحديث الآخر {مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى} إن حالة الضعف تحتاج إلى ود ورحمة وعطف ومساعدة، وتحتاج إلى اليد الحانية التي تعين هذا الضعيف.
إن المسلمين اليوم يعانون في معظم ديارهم ألواناً من التسلط والإذلال في فلسطين مثلاً وفي العراق والمغرب وتونس والجزائر وفي البوسنة والهرسك وفي كشمير والفلبين وفي جمهوريات آسيا الوسطى وطاجكستان والصومال، وفي بلاد كثيرة.
والغرب مع الأسف الشديد يقف أحياناً إعلامياً ومظهرياً مع هؤلاء المضطهدين، وأحياناً يتدخل في بلاد عدة لمصالحه السياسية والاقتصادية باسم الإنسانية، وباسم الإغاثة، وباسم الدعم، بل يتدخل بغرض التنصير وتحويل المسلمين عن دينهم.
ولهذا وجدنا من المسلمين من بدأ يفقد الثقة في إخوانه، ويعيد النظر في العدواة مع الغرب وعداوة النصارى، ولا بأس أن أذكر لكم مثلاً: بلد من البلاد الإسلامية كان أهله يتمتعون بقوة في البراءة من المشركين؛ حتى إن بعضهم يقولون في البوادي والمناطق النائية: (نسأل الله أن يميتنا قبل أن نرى بأعيننا وجه كافر) ويقولون: (إذا شرب الكافر من إناء؛ فلا بد أن نغسله سبع مرات كما يغسل من شرب الكلب) هكذا بلغت بهم الحساسية واليقظة ضد الكفار، مع أن هذا الأمر ليس له أصل في الشرع، مسألة غسل الإناء من شربهم، ولكن المقصود أن أضرب مثلاً فحسب، وهؤلاء المسلمون قام خطيب في بلادهم بعدما تدخل العدو الكافر باسم الإنسانية وباسم الحماية، وباسم الإغاثة، فتغيرت الصورة عند كثير من المسلمين، قام الخطيب في بلد منكوب وفي منبر الجمعة ليقول للناس: (إن النصرانية دين رحيم ودين متسامح، وهو دين قديم ودين سماوي يجب أن نعترف به، وأن نحب أهله وألا نبغضهم، وألا نحمل لهم العداوة، بل وأن نعطي الفرصة لكل من أراد أن يدخل في دينهم فمن حقه أن يختار هذا الدين الرحيم) .
انظر كيف فعل التدخل الغربي فعله في عقول بعض المنتسبين إلى الإسلام وغيَّر مفاهيمهم، بل أخرجهم من دينهم بهذه النظرات التي ألغت شعورهم بأن الإسلام هو الدين الوحيد الحق، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85] إنها ردة تطل برأسها في عدد من بلاد المسلمين، يقف وراءها أولئك الذئاب الذين جاءوا يلبسون مسوح الضأن باسم الإنسانية والإغاثة، ويقف وراءهم أيضاً أولئك المسلمون الذين أسلموا إخوانهم لأعدائهم وتخلوا عن مناصرة قضاياهم.
أحبتي: إن هذا يوجب علينا أن نتولى مناصرة قضايا المسلمين، ولو من الناحية الإعلامية، وأنتم تملكونها هنا أكثر من غيركم، لقد أعطوا لكم فرص الاتصال، والإعلام، والأعمال الإعلامية، وفرص الحرية المتاحة لكم بما لا يوجد في بلادٍ كثيرة، فأين الأصوات المدافعة عن حوزات الإسلام؟ بل المطلوب منكم أكثر من ذلك، المطلوب منكم: المؤسسات الإغاثية، والإنسانية، والتعليمية، والدعوية، ودور الأيتام، وإيواء اللاجئين، وغير ذلك مما تطيقونه أنتم وتستطيعون أن تعملوه لحماية المسلمين من الردة والخروج من الدين، ومثل ذلك أيضاً جهود جمع التبرعات لصالح المسلمين.
إنها واجبات علينا جميعاً، وهي أسلم طريق لحماية المسلمين من الكفر والردة، كما أنها أسلم طريق لحمايتهم من الأفكار المنحرفة والعقائد الضالة التي تستغل هي الأخرى ظروف المسلمين الصعبة فتأتيهم في مثل هذا الموضع.
أيها الإخوة الكرام: أنتم تعلمون تعاليم نبيكم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لقد أخبرنا في الحديث الصحيح المتفق عليه: {أن امرأة دخلت الجنة في كلب سقته، فشكر الله لها، فغفر الله لها، فقالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم لأجراً؟ قال عليه الصلاة والسلام: في كل كبد رطبة أجرٌ} فما بالك بآلاف بل ملايين من المسلمين.
فما داموا داخل دائرة الإسلام، فلهم علينا واجب المساعدة والإعانة والنصرة، ويجب أن نعلم أن أول معنى من معاني النصرة هو: تصحيح دينهم، وتصحيح مفاهيمهم، وتصوراتهم، وعقائدهم، وعباداتهم، وأخلاقياتهم، لتكون هي الإسلام الحق، وليس إسلاماً موروثاً فيه كثير من التغيير والانحراف والتبديل، فهذا أول ما هو مطلوب لنصرتهم، وهو جزء كبير من هذه النصرة ويبدأ ذلك بإيوائهم وتعليمهم ومساعدتهم وعلاجهم وإطعامهم إلى غير ذلك، هذا نموذج فيما تحدثت عنه في قضية تحقيق الأخوة الإسلامية عملياً وعدم الاقتصار على إدارة الحديث عنها من الناحية النظرية فحسب.
النموذج الثاني: إننا نجد أن من ثمار التدخل الغربي في بلاد المسلمين سواء في الصومال، أم فيالخليج وفي بلادٍ كثيرة؛ أن من ثمار التدخل الغربي أن العداوة تحولت فيما بين المسلمين، وأصبح كثير منهم ينظر إلى الآخر بريبة وشك، بينما ينظر إلى عدوه الكافر المعلن الصريح بقدرٍ كبير من الاحترام، إنه يؤسفني جداً أن أقول إن عدداً من الناس، لا أقول من العامة، بل من الدعاة، بل من خواص الدعاة -أحياناً - أنه يقول: إن العداوة للغرب هي أمور ورثناها من أدبيات العقود السابقة -سبحان الله! - أين نصوص القرآن الكريم الصريحة في عداوة الكفار وحربهم وبغضهم للمسلمين؟! قال تعالى: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً} [الكهف:20] وقال: {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلّاً وَلا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ} [التوبة:10] وقال: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلّاً وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ} [التوبة:8] .
وبالمقابل أصبحنا نشهر السهام ضد بعضنا، وتحولت العداوة -خاصةً بعد حرب الخليج الثانية كما تسمى- تحولت إلى عداوة بين المسلمين المنتمين إلى بلاد مختلفة.
إن هذا القرار أو تلك القرارات لم تكن قرارات الشعوب، ولم يكن للشعب فيها رأي أصلاً ولا مشورة، إلا أن الآثار العميقة محفورة في ذاكرة الناس، ولا تزال ترسبات ما جرى في السابق تعمل عملها في المسلمين خاصة حسبما اطلعت ورأيت من خلال زياراتٍ عدة في بلاد الغرب، ففي ظل التوجيه الإعلامي الذي يستثمر تلك الحادثة نجد أن كثيراً من المسلمين أصبحوا ينظرون إلى الفئة الأخرى نظرة ريبة، فأهل الخليج -مثلاً- والعراق وفلسطين والشام والمغرب أصبح هناك في النفوس أشياء وأشياء وحزازات، مع الأسف الشديد.
أيها الأحبة: كيف تفعل مثل هذه الأشياء فعلها في نفوسنا؟! أين معاني الأخوة الدينية؟! أين معاني الأخوة الإيمانية؟! أين نصوص القرآن الكريم التي تؤكد على أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض وهم إخوة فيما بينهم من دون الناس؟! وأن العقيدة يجب أن توحدنا وتجمع شملنا، لماذا ضعف هذا التأثير وقوي تأثير حادثة معينة في ظروف معينة بغض النظر عن تفاصيل الأمور وعن تحديد نسبة الخطأ ونسبة الصواب؟! لكن، لماذا لا نجعل روابط الأخوة الدينية الإيمانية أقوى من مثل هذه العوامل المؤقتة؟! ولماذا لا ندرك أننا في أمس الحاجة إلى أن نقترب من بعضنا، ونتناصح فيما بيننا، ونتعلم من بعضنا خاصة مع أولئك الناس الذين تجمعنا معهم رابطة العقيدة الحقة النظيفة؛ من توحيد الله عز وجل والإيمان بألوهيته، والإيمان بربوبيته، والإيمان بأسمائه وصفاته، والإيمان بالدار الآخرة، والإيمان بالجنة والنار، والإيمان بتلك القضايا العظمى، والإيمان بقواعد الإسلام وأركانه العظام، إنها أساسٌ عظيم في التقارب بين المؤمنين، وتوحيد كلمتهم، وجعل عداوتهم في عدوهم الكافر، أو جعل عداوتهم لمن يخالفهم في العقيدة ويخالفهم في المبدأ، أو في المنهج.
أما أن يتعادوا فيما بينهم بسبب الانتساب والانتماء إلى هذا البلد أو ذاك، أو اتخاذ موقف معين، فإن هذا من وسواس الشيطان الذي يجب علينا أن نتخلص منه، وفي صحيح مسلم يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {إن الشيطان يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم} فهو لا يفتأ يسير العداوة بين المسلمين ويحرش بعضهم على بعض، ويوغر صدور بعضهم على بعض، ويجعل بعضهم يسيء الظن في الآخر لشق صفوفهم، ويشغل بعضهم ببعض عن عدوهم.