وضع الشخص في إطاره الطبيعي

والمهم أن الانحراف وارد على الإنسان، خاصة مادام في حال الحياة، فأنت إذا اعتبرت الشخص منهجاً، قلت: لماذا قال كذا؟ ولماذا لم يتكلم بكذا؟ ولماذا فعل كذا؟ ولماذا بالغ في كذا؟ ولماذا نقص في كذا؟ ولماذا؟ ولماذا؟ لكنك لو وضعت هذا الشخص في وضعه الطبيعي، في وضعه الصحيح، من كونه واعظاً، أو فقيهاً، أو مفتياً، أو داعيةً، أو محللاً سياسياً، أو ما شئت، فلا تطالبه بأكثر من ذلك، اطلب منه الشيء الذي يحسنه، والذي يقدر عليه، والذي يجيده، ولا تطالبه بما لا يجيد، ولا تعتقد أنك تدعو إلى ما دعى إليه فلان، ففلان دعى إلى جانب، وأنت تحتاج إلى جوانب يكملها غيره.

فلا تقصر نفسك على هذا الإنسان، لا تقرأ إلا له، ولا تسمع إلا منه، ولا تتلمذ إلا على يديه! لا! خذ الحق ممن جاء به، وَنوِّع من المشارب، وخذ من أهل العلم كلهم، ومن الدعاة كلهم، واسمع واقرأ كل حق، وعسى الله تعالى أن ينفعك بما تقرأ وبما تسمع، المهم لا تعد أن الشخص منهجاً بحال من الأحوال، فإنك حينئذٍ تضر نفسك، وتضر هذا الإنسان، بل يجب أن تضعه في وضعه الصحيح، فإذا كان هذا الشخص نافعاً، فقل: هذه حالة إيجابية، ففلان جزاه الله خيراً، واعظ جيد، ولكنه غير فقيه، إذا كان وعظه منضبطاً بالضوابط الشرعية.

نقول: هذا الذي نريده، ونحتاجه، والقلوب اليوم قد قست، فهي كالحجارة أو أشد قسوة، فتحتاج هذا الإنسان، أن يرقق قلوب الناس، ولا نطالبه بأكثر مما يمكن، نقول: هذه حالة إيجابية، نثني عليها، ونؤيدها، ونزكيها، ونطلب من الناس أن يستمعوا إليه في الوعظ، ولكن الفتيا تؤخذ من غيره.

إذاً أنت إذا نظرت إلى هذا الإنسان على أنه حالة إيجابية وظاهرة طيبة، أثنيت على الخير، وانتقدت الأخطاء والملاحظات، والمنهج لا يؤخذ من هذا الإنسان، بل يؤخذ من الأمة بجملتها، فإن الأمة بجملتها تمثل المنهج، فالأمة معصومة، ولا يمكن أن تجتمع على ضلالة، كما جاء في الحديث وله شواهد، أن الأمة لا يمكن أن تجتمع أو تتفق على ضلالة، وهذا يغطي جانباً، وغيره يغطي جوانب أخرى، وإذا كان عند هذا خطأ فإن الآخرين يصححون هذا الخطأ.

إذاً فالعصمة للمنهج، للقرآن، للرسول عليه الصلاة والسلام، والرسل معصومون فيما يبلغون عن ربهم عز وجل، أما الأشخاص البشر، فلا عصمة لهم، ولا ينبغي أن يؤخذ المنهج من شخص أبداً، ولا أن تعدَّ طريقة فلان منهجاً يتبع أبداً.

وانظر في التاريخ تجد أن ابن الجوزي مثلاً، أين ستصنفه؟ هو بالدرجة الأولى واعظ، وخبير بشئون النفوس، وابن قدامة، لا بد أن تضعه في قائمة الفقهاء، ولكن حينما تنتقل إلى ابن الأثير، فتجد أنه مؤرخ، أما المزي فهو في الغالب محدث، لا يمنع أن هؤلاء لهم مشاركات في ألوان مختلفة من العلوم، كما ذكرت، فإن كل واحد منهم ما قصر نفسه على علم بعينه، لكنه اشتهر بعلم أكثر من غيره، وله مشاركات أخرى، وقد يوجد من جمع علوماً كثيرة، لكن لا يلزم من بروزه في علم، أن يبرز في كل علم، ولا يلزم من حديثه في مسألة أو أمر، أن يتحدث في كل أمر، وليس من شرط المعلم أو الداعية أن يكون معصوماً، وإلا لم يدعُ أحد بعد الرسول عليه الصلاة والسلام.

وإننا يجب أن نفرق بين الشرع وبين العالم، وبين الفقيه أو الداعي، فالشرع رباني، نص من كتاب أو سنة، أما العالم والفقيه فهو إنسان بشر، بذل وسعه في معرفة الحق بالدليل.

وهو مع هذا عرضة للخطأ، وله أجران إن أصاب، وأجر واحد إن أخطأ، وفتواه اجتهاد، وقوله اجتهاد، وكلامه اجتهاد، وتحليله اجتهاد، فإذا كان يتحدث في قضية شرعية ليس فيها نص، نقول: هذا اجتهاد، وقد يخالف غيره من أهل العلم، فما بالك إذا كان يتحدث في نصيحة اجتماعية! وفي حل مشكلة بين الزوجين، هل نستطيع أن نقول: إن هذا الأمر لا بد منه؟ فقد يجتهد برأي ينصح به، ويكون الحق خلافه، بل ما بالك إذا كان يتحدث في مسألة اقتصادية؟ ما بالك إذا كان يتحدث في هذه المسألة؟ من الممكن جداً أن يخطئ، وما بالك إذا كان يتكلم في قضية سياسية؟ يحللها أو يدرس أبعادها، أليس مظنة الخطأ؟! والمختصون في هذا الأمر يخطئون، فغيرهم من باب أولى، وهو لا يجوز أن يكون مترجماً عن الله والرسول عليه الصلاة والسلام، ولا متكلماً بلسان الشرع، ولا معبراً عن المنهج، وإنما هو يمثل نفسه، ويعبر عن رأيه الشخصي.

ولذلك الكثيرون إذا وثقوا بشخص أصبحوا يتلقون كل ما يستمعون منه، مباشرة أو بواسطة، يتلقون بقدر كبير من التسليم، والانقياد، وعدم التأمل، وعدم الدراسة، وعدم التحري، وعدم التمحيص، وهذا خطأ؛ لأنه يختصر الأمة في أفراد، والأمة التي تختصر في أفراد، أمة إلى ضياع، وإلى بوار، وما دمر الأمة وقضى على إنجازاتها وامتيازاتها، إلا يوم لُخِّصَتْ في أفراد، سواء أكان ذلك في المجال العلمي، أم في المجال السياسي، أم في المجال الدعوي.

ففي المجال العلمي نجد أن رجلاً، أو رجالاً، يصبح الناس لا يقبلون إلا كلام فلان، ليس فقط في المسائل الخاصة، فهذا طبيعي، لكن حتى في المسائل العادية، فلو أراد إنسان -مثلاً- أن يسأل عن كفارة اليمين، أو عن مسائل معروفة، ثابتة بنص من كتاب أو سنة، ربما لا يسأل عنها عالماً معروفاً في بلده، أو فقيهاً، أو مفتياً، حتى يسأل غيره، مما ترتب عليه مشقة كبيرة، وعبء عظيم على بعض العلماء، وبعض المفتين، وبعض المشهورين، الذين نذروا أنفسهم لله تعالى في هذا السبيل.

وأما في المجال السياسي فالأمر معروف، فقد أصبحت الأمة راضية لنفسها بأن لا تفكر، ولا تنظر ولا تتأمل، ولا تدرس المصالح والمفاسد، ولا تستخدم عقلها، ولا سمعها لتسمع، ولا بصرها لتنظر، لأنه كما يتردد وينقل الجميع، أن الإنسان يستمتع برحلة ممتعة هادئة هانئة، وقد ترك الأمر لغيره، حتى دون أن يسأل أو يناقش، مع أن الله تعالى جعل الأمة كلها مسئولة، ولم يجعل المسئولية العلمية، ولا السياسية، ولا الدعوية، على شخص واحد، كذلك الحال بالنسبة للدعوة، فقد يجد بعض الناس، أو بعض الشباب شخصاً يعجب به! فيستمع إليه، ويتابعه، ويقرأ له، حتى ينطبع بشخصيته، ويعجب بآرائه كلها، فلا يصبح لديه قدرة على التمحيص، ولا على المراجعة، ولا على الرد، وهذا خطأ لأنه يختصر الأمة -كما ذكرت- في أفراده، والله تعالى يقول: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38] وقال: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران:159] مع أن الرسول عليه السلام مؤيد بالوحي من السماء، فالمشاورة فيها تعزيز للعقول، وتنمية للمواهب، وجعل الجميع يشعرون بأن الأمر لهم، وهو شأنهم وقضيتهم، وهذه لكم أنتم، وليست لي، وإذا وقع خطأ ستتحملونه جميعاً، لن يتحمله العَالِم وحده، ولا الحاكم وحده، ولا الداعية وحده، بل سوف يتحمله الجميع، ولهذا واجب أن يشارك الجميع بالرأي وبالمشورة وبالنقد البناء الهادف، وبالدعاء، وبكل وسيلة ممكنة.

فإن أهل الشريعة علماء، أو دعاة، هم في الجملة أقدر من غيرهم على معرفة الصواب واتباعه في الجملة، لكن هذا لا يلزم منه صوابهم في كل مسألة، ولا يلزم أن يؤخذ قولهم في كل أمر، أو نظرهم على أنه صواب قطعي، بل هو اجتهاد، وهو محل نظر، ولذلك تجد أن اختياراتنا تتأثر أحياناً بطبائعنا، ببيئتنا، بنمط تفكيرنا، ولا تثريب علينا في ذلك، لأنه كما قال الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] فالنص الشرعي محفوظ {إِنَّا نَحْنُ نزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] لكن عمل الإنسان في الاستنباط والاستدلال، وتطبيق النص على المحل واستخراجه، هذا العمل اجتهاد من الإنسان، يتأثر بطبيعته، ببيئته، بأسلوب تفكيره، ولا تثريب عليه، إذا بذل وسعه في ذلك قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] وقال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7] .

وإن من الخطورة بمكان أيها الأحبة أن تتمحور الصحوة الإسلامية، حول أشخاص، أو أن تتمحور الأمة كلها على أشخاص، سواء أكان ذلك على الصعيد السياسي، أم على الصعيد العلمي، أم على الصعيد الدعوى، وقد محضتكم النصيحة بهذا الكلام.

وكم مرة اتبعتكم بنصيحتي وقد يستفيد البغضة المتنصح

طور بواسطة نورين ميديا © 2015