أما القائلون بعدم التوقيف، يعني أن وسائل الدعوة مباحة، فالأصل فيها هو الإباحة، وكل وسيلة ليست محرمة، يجوز أن تستخدم للدعوة إذا ظن الإنسان أنها تنفع، فإنهم يُوَاِفُقون، أو يجب أن يوافقوا على ما سبق، ولكنهم يرون جواز استخدام كل أسلوب أو ذريعة، تؤدي إلى الغرض، ما لم تكن حراماً، ومن ذلك مثلاً: أسلوب تأليف قلوب الناس على الخير، تأليف قلوبهم بالدعوة إلى الطعام، أو السفر معهم، أو الرحلة أو المشاركة في بعض أعمالهم المباحة، أو تطييب خواطرهم، وإزالة الوحشة منهم، بكل أمر مباح.
ولا يمكن أن يقال: إن من تأليف القلوب والدعوة إلى الله، أن تذهب إلى قوم على لهو، ولعب، ورقص، وسكرٍ، وعربدة، وفجور، وتكون معهم على ذلك، لأنك تؤلف قلوبهم، أو لأن هذه وسيلة دعوة، هذا لا يجوز، ولا يمكن أن يكون أبداً، لأن الأمر محرم ومفروغ منه، لكن هب أنهم على أمر مباح، وأنت لا تريده لنفسك، ولكنك رأيت أن مشاركتهم فيه قد تكون سبباً في تألف قلوبهم أو تقريبها، أو تحبيبها إلى الخير، أو ما أشبه ذلك من الأمور، يعني من باب تأليف القلوب، الذي عمل به الرسول عليه الصلاة والسلام، ولهذا يتفق الطرفان معاً، القائلون بأن وسائل الدعوة توقيفية، أو الذين يقولون: إنها ليست توقيفية، على أنه لا يشترط للوسيلة من وسائل الدعوة، أن يكون منصوصاً عليها بذاتها وعينها، مع أننا لو قلنا: إن الوسائل توقيفية محضة، كالقرب المحضة، كالعبادات، لم يكن كافياً أن تكون الوسيلة لها أصل في الشرع، بل يجب أن يكون منصوصاً عليها في وقتها، وفي سببها، وفي صفتها، وفي زمانها، وفي مكانها.
مثال ذلك: الصلاة، الصلاة عبادة، والعبادات توقيفية، أي: لا يجوز لواحد أن يأتي من عنده بصلاة لم تشرع، ويأمر الناس بها، بل يجب أن تكون الصلاة مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم، مأثورة في عدد ركعاتها، مأثورة في صفات ركوعها، وسجودها، وقيامها، وقعودها، مأثورة في أسبابها، كصلاة الضحى، أو كصلاة الوضوء، أو كصلاة الاستخارة أو صلاة الفتح، أو ما أشبه ذلك، مأثورة في زمنها، مأثورة في مكانها، إلى غير ذلك، فها هنا بالنسبة للصلاة كل هذه الأشياء محددة.
لكن لو نظرنا إلى مثال آخر، وهو التعليم: هل يمكن أن نقول: التعليم وسائله توقيفية مثل ما هو الحال بالنسبة للصلاة؟ ولو قلنا ذلك لوجدنا أن الصورة الموجودة اليوم، بل الموجودة منذ سنوات، بل منذ قرون في العالم الإسلامي للتعليم، لم تكن موجودة في الصدر الأول، فالمراحل والمناهج الدراسية، والكتب والشهادات، والامتحانات، وطريقة التدريس، وطريقة السكن، وتسجيل الطلاب، وتدوينهم وتصنيفهم، وغير ذلك، كل هذه الأشياء لم تكن موجودة بتفاصيلها، في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بل لم تكن الكتب قد ألفت آن ذاك.
ولما هم الصحابة رضي الله عنهم بتدوين السنة، احتج بعضهم بأن النبي عليه الصلاة والسلام قال كما في حديث أبي سعيد: {لا تكتبوا عني شيئاً غير القرآن، ومن كتب عني شيئاً غير القرآن فليمحه} ولكن ترجح الرأي القائل بمشروعية الكتابة، بل بوجوبها لنصوص كثيرة معروفة، وللحاجة الماسة، خشية ضياع السنة النبوية.
إذاً لو نظرنا إلى التعليم، واعتبرناه أمراً عبادياً توقيفياً، يجب أن يكون منصوصاً، بزمانه، ومكانه، وصفاته، وسببه وعدده، وما أشبه ذلك، لم نجد أن الصورة القائمة هي الصورة الموجودة في العهد الأول، ولكن نقول: نعم العلم الشرعي عبادة، يجب أن يقصد فيه وجه الله، ويراد به ما عند الله تعالى، ولا يقصد به عرض من أعراض الدنيا، ويخلص الإنسان فيه النية، ويرافقه بالعلم النافع، وبالعمل الصالح، وبالدعوة، وبالخلق الفاضل، وما أشبه ذلك، ولكن لا يلزم أن تكون كل هذه التفاصيل منصوصاً عليها بذاتها، وإن كان لها أصلٌ في ما هو موجودٌ في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، لكن لو قلنا: إن الأمر تعبدي محض، لم يكن كافياً وجود الأصل، بل لا بد من وجود النص على التفاصيل.
أرأيت لو نظم أحدٌ أمر الصلاة، كما ينظم التعليم مثلاً، فجعل لكل فئة من الناس زماناً خاصاً لصلاة خاصة، ومكاناً خاصاً وطريقة خاصة يتعبدون بها، أفيجوز هذا؟ كلا، لا يجوز.
إذاً نخلص من هذا إلى أن السعي في إصلاح المناهج الدعوية، وإعادتها إلى الكتاب والسنة، فيه خير كثير إن شاء الله تعالى، ثم لا يمنع بعد ذلك أن تتنوع النشاطات، فهذا ينشط مع العامة، وهذا ينشط مع الخاصة، وهذا يتحرك في أوساط الشعب، وهذا يتحرك في الدوائر الرسمية، وهذا يشتغل بالمال، وهذا يشتغل بالجهاد، والجميع متفقون على المنهج الشرعي الصحيح، على الكتاب، والسنة، على الرد إلى الله والرسول، وعلى عدم التعصب، وعلى عدم ازدراء الآخرين، أو تنقصهم أو الاستخفاف بجهدهم.
إننا نحتاج إلى هذا كله، ونحتاج إلى الصبر، وسعة البال، والحلم والحكمة، وأن نقابل الإساءة بالإحسان، والمنكر بالمعروف، وأن يكون لسان حال الواحد منا، كما أمر الله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35] .
إننا أيها الإخوة! نغضب لأنفسنا وأشخاصنا، أكثر مما نغضب لمنهجنا، أتدري كيف؟ أضرب لك مثالاً، لك جار لا يصلي الصلوات، وأنت اليوم صابر عليه، على مدى سنوات، ربما سنتين أو ثلاث، وأنت تقول: نصبر عليه، ندعوه إلى الله تعالى، نسلك معه الأسلوب الحسن، بالمراسلة، وبالاتصال، وبالزيارة، وبذلت معه مجهوداً كبيراً، وأنت صابر، ثم لقيته يوماً من الأيام، فدعوته إلى الله تعالى، فقال لك: مالك ولي؟ دعني وشأني! أنت فيك كذا، ثم طفق يسبك ويشتمك، ويتكلم فيك، فتجد أنك حينئذٍ غضبت أشد الغضب، وفار دمك، وانشدت أعصابك، ثم قلت: لا يمكن أن نصبر عليه أبداً، هذا الإنسان ليس فيه خير، هذا من سنوات لا يصلي، لابد أن يخرج هذا اليوم من المنزل.
إذاً لماذا هذا الغضب ادخرته لموقف شخصي؟ لماذا ما غضبت يوم كان هذا الإنسان مفرطاً في شعيرة من الشعائر؟ وربما كان أهله، أهل بيته، أحياناً يشتكون منه، أنه لا يؤدي الصلاة، أو يشرب الخمر، أو ربما يقع في معاصٍ، وكنت صابراً، فلما مسك في شخصك بعض الأذى تجد الواحد منا انشدت أعصابه وغضب، وهاهنا تبين لك أن غضبك وغضبي حينئذ كان للشخص، انتصاراً للنفس، أكثر من كونه انتصاراً للمنهج، ويجب أن يكون لسان حالك، كما قال الأول: أي في ما بينك وبين إخوانك من الدعاة، وإخوانك من طلبة العلم، وزملائك: وإن الذي بيني وبين بني أبي وبين بني عمي لمختلف جداً فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجداً ولا أحمل الحقد القديم عليهم وليس رئيس القوم من يحمل الحقدَ إن المروءة والصبر والرجولة والإيمان والخلق الكريم، هي التي تحتاج إلى الرجال، أما المعاملة بالمثل، والشد، أو ما أشبه ذلك، فهذه كل أحد قد يحسنها.