تشكيك الناس في وسائل الرسل

شككوا الناس في وسائل الرسل التي يدعون الناس بها.

فمثلاً: قالوا لنوح عليه الصلاة والسلام: {قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} [هود:32] .

فاعتبروا الدعوة نوعاً من الجدال، وقولهم: فأكثرت جدالنا، يوحي بتبرمهم وضيقهم، وهذا لا يقوله إلا إنسان انقطعت عنه الحجة؛ ولم يعد يملك أسلوباً للرد، ولهذا قالوا: أطلت علينا في الكلام، فإذا كان عندك شيء فهاته سواءً أكان عذاباً أو عقوبة أو زلزلة أو غير ذلك، ائتنا بما تعدنا، أما مسألة الجدال والدعوة فما لنا بها من حاجة.

ومرة أخرى يقولون لنبيٍ آخر: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ} [هود:91] فالله تعالى كان يبعث الرسل في علية أقوامهم: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم:4] فكان الرسل الذين يبعثهم الله عز وجل أهل فصاحة وبلاغة وبيان، ويعطيهم الله قوة في الحجة، ويمنحهم من ذلك ما يقيم به الحجة على أممهم وأقوامهم، كما بعث محمداً صلى الله عليه وسلم.

ولهذا لما بعث الله موسى عليه الصلاة والسلام، قال موسى داعياً ومنادياً ربه عز وجل: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه:27-32] إلى قول الله عز وجل: {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه:36] فحل الله عقدة لسانه، فكان بيناً فصيحاً بليغاً، وآزره، وأعانه بأخيه هارون عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك كان فرعون يقول: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:52] فيعيره بحبسة كانت في لسانه قبل النبوة، مسألة اصطياد -كما يقال- في الماء العكر، فهو يقول: لا يكاد يبين أي: لا توجد عنده فصاحة ولا عنده بلاغة، وهنا يقولون لشعيب: {يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ} [هود:91] هم يفقهون، ويعرفون، لكن قلوبهم في صدود وفي عمى؛ لا يريدون أصلاً أن يفهموا فيتعمدون الصدود عن الحق والإعراض عنه بكل وسيلة.

ولذلك تجد أن الإنسان الذي يتابع اليوم ما يكتبه أعداء الرسل عليهم الصلاة والسلام، أنهم يقعون في تناقضات ليس لها أول ولا آخر، حتى يسخر منهم الإنسان العادي، وربما كانوا -أحياناً- أذكياء، وربما كانوا عقلاء، وربما كانوا عباقرة، ولكن وقوعهم في هذا التناقض؛ لأنهم يحملون الباطل وسبحان الله!! الأرض والسماوات قامت بالحق، فما من إنسان يدافع عن الباطل إلا ويفضحه الله عز وجل، وما من إنسان يدافع عن الحق إلا ويجعل الله تعالى السداد والصواب على لسانه.

وكذلك حين جاء النبي صلى الله عليه وسلم وبعث في جزيرة العرب، كان في ذروة الفصاحة والبلاغة ومع ذلك لم يستطيعوا أن يقولوا مثل ما قيل من قبل: {مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ} [هود:91] ؛ لأن كلامه مما لا يستطيعون أن يحولوا بين الناس وبينه، ولهذا قالوا: ساحر يفرق بين المرء وزوجه، ويفرق بين المرء وأخيه، ويفرق بين المرء وابنه، وما يزالون بالناس حتى يحاولوا ألا يسمعوا كلام النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إنهم جاءوا إلى الطفيل، وما زالوا به -وكان رجلاً عاقلاً لبيباً- حتى وضع القطن في أذنيه؛ حتى لا يسمع كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، لأنهم يدركون أن للحق سلطاناً على القلوب، ولذلك يفرضون - وهو ما يسمى بلغة العصر الحاضر- التعتيم الإعلامي على الدعوة، ومحاصرتها، وفرض القيود عليها، وحربها؛ لأنهم يعرفون أن كلمة الحق لها سلطان على القلوب، ولها رواج في النفوس، ولها رنين في الآذان، وما أن يسمع الناس بها حتى تنجلي عنهم الغشاوة وينقشع عنهم الظلام، ولهذا يحاولون أن يحولوا بين الناس دائماً وأبداً وبين كلمة الحق بكافة الوسائل.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015