من الأحاديث التي وردت -وكنت ذكرتها، وجاءت في بعض الأسئلة الواردة الآن- كثير من الناس يرددون حديثاً في هذه الأيام رواه مسلم في صحيحه يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: {يوشك ألا يجبى إلى العراق قفيز ولا درهم، قالوا: يا رسول الله: ممَ ذاك؟ قال: من قبل العجم، يمنعون ما بأيديهم} .
فبعض الناس يطبق هذا الحديث على الواقع، وأنا أرى أنه ينبغى ألا يتسامح المبتدئ أو الإنسان العادي أو العامي في تطبيق هذا الحديث، فالعلماء لهم شأنهم إذا رأوا ذلك، لكن بالنسبة لنا فينبغي ألا ندخل في هذا الباب؛ لأن هذا الحديث نفسه لو تأتي إلى عالم قديم مثل النووي -مثلاً- راجع شرح الحديث في شرح مسلم قال النووي: لقد وقع هذا في زماننا، وأخبر أن العجم استولوا على العراق في زمانه ومنعوا ألا يجبى إليه شئ، هذا مثال.
مثال آخر كثيراً ما يورده الناس أيضاً في هذا الزمان وفي غيره، وهو ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم: {من أن المسلمين يصالحون الروم صلحاً آمناً، ثم يغزون وإياهم عدواً من ورائهم فيغدرون، ويأتون في ثمانين غاية تحت كل غاية ثمانين ألفاً، ويشترط المسلمون الشرط على الموت وينتصر المسلمون في النهاية} .
وهناك أحاديث أخرى من هذا القبيل.
أيضاً بعض الناس يطبقون هذا الحديث على الواقع وهذا الحديث وإن كان أهل العلم ذكروا أنه لم يقع، كما قال ابن المنير فيما نقله عنه الحافظ ابن حجر قال: "أما قصة الروم فلم تجتمع إلى الآن، ولا بلغنا أنهم غزوا في البر إلى هذا العدد، فهي من الأمور التي لم تقع بعد، وفيه بشارة ونذارة، وذلك أنه دل على أن العاقبة للمتقين مع كثرة ذلك الجيش، وفيه إشارة إلى أن عدد جيوش المسلمين سيكون ضعف أو أضعاف ما هو عليه الآن".
هكذا يقول ابن المنير انتهى كلامه، لكن نجد أحد المؤلفين المعاصرين وهو الغماري فسر هذا في كتاب له سماه "مطابقة الاختراعات العصرية" فسره بحلف الأمريكان والعرب لقتال الروس.
فإذاً أقول: لسنا متعبدين بتطبيق أحاديث الفتن على الواقع، لا، لا نطبق الأحاديث على الواقع بل ندع الواقع هو الذي ينطق، فإذا وقع الأمر قلنا: هذا ما وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله، ويزيدنا الأمر إيماناً وتسليماً، أما أن نأتي نحن ونتكلف -أحياناً- في تأويل النصوص وتطبيقها على واقع معين، فأرى أن هذا لا يصلح للعلماء، وإن صلح للعلماء أو طلبة العلم المتقدمين المبرزين الفقهاء فإنه لا يصلح للعامة ولا ينبغي لهم أن يشتغلوا بهذا الأمر، مع أن هذا الأمر يدعوهم -أحياناً- إلى ترك الاشتغال بالعمل والجد والاجتهاد، وأن يعتمدوا فقط على الانتظار، والانتظار وحده لا يصنع شيئاً، بل هذا قد يوحي لهم بأن يتصرفوا -أحياناً- تصرفات غير مشروعة، بإيحاء لا شعوري فيتصرفون تصرفاً غير جيد بسبب توقعهم أن هذا هو الحال الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم.
ولو نظرنا إلى الصحابة رضي الله عنهم لوجدنا أن اشتغالهم بأحاديث الفتن لم يصرفهم عن الاشتغال بالحلال والحرام، ومعرفة الشرع، ولذلك قال حذيفة رضي الله عنه: {خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما ترك فيها شيئاً إلى قيام الساعة إلا ذكرها، علمه من علمه، وجهله من جهله} حتى قال حذيفة رضي الله عنه: {إن كنت لأرى الشيء قد نسيته فأعرفه كما يعرف الرجل الرجل إذا غاب عنه} والحديث متفق عليه، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم جميع الفتن ومع ذلك ذكر حذيفة لنا شيئاً منها ونسي شيئاً منها.
عمرو بن أخطب يقول كما في صحيح مسلم: {صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر ثم صعد المنبر فخطب حتى جاء الظهر، فنزل وصلى الظهر ثم صعد وخطب حتى جاء العصر فنزل وصلى العصر، وصعد المنبر فخطب حتى غربت الشمس، فأخبرنا صلى الله عليه وسلم بما كان وما هو كائن فأعلمنا أحفظنا} أي أن من الصحابة من علم وحفظ ومنهم من نسي.
المشكلة إذاً مشكلة تطبيق النصوص على الواقع، كم من قوم ضلوا -مثلاً- بسبب تطبيقهم للنصوص على واقع معين، ولعل من أظهر الأمثلة المهدية، كم من قوم ادعوا المهدية في زمن بني أمية وبني العباس، ومهدي المغرب المهدي بن تومرت، ومهدي السودان محمد بن أحمد الذي ادعى المهدية، وكون مجموعة لا تزال معروفة إلى اليوم باسم الأنصار حزب الأمة كما يسمونه في السودان وغيرهم كثير، ادعوا المهدية بالباطل بسبب أنهم طبقوا النصوص على الواقع وهم ليسوا أهلاً لذلك.
ومن الطريف حديث: {نجد قرن الشيطان} الذي ذكرته قبل قليل، وأن العلماء ذكروا أن المقصود بنجد نجد العراق، من المغرضين الحاقدين من فسروه بأن المقصود نجد هذه التي نحن فيها الآن، وفسروا قرن الشيطان بالدعوات الإصلاحية التي خرجت في هذه البلاد، وهذا من سوء رأيهم وصنيعهم وفساد قصدهم.
وهناك مؤلف أحببت أن أنبه إليه في نهاية هذه المحاضرة اسمه: "مطابقة الاختراعات العصرية لما جاء به سيد البرية" لمؤلف اسمه أحمد بن محمد بن الصديق الغماري، وهذا المؤلَّف طريف وغريب في الوقت نفسه، فإن مؤلفه تجشم الأمر الذي حذَّرت منه، وحاول أن يطبق النصوص على الواقع بطريقة غير صحيحة في كثير من المواضع، -مثلاً- تكلم عن قضية الطائرات والسيارات، وكما يقول: "الأوتومبيل" والقطارات والمطر الصناعي، وقضية المغاسل، وأشياء كثيرة جداً مما جاء في هذا العصر، حاول أن يبحث لها عن حديث يدل على أنها سوف تظهر، وتكلف لذلك تكلفاً عظيماً يُذَمُ ولا يُحْمد، حتى أن من العجائب أنه فسر قوله عز وجل: {وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ} [التكوير:4] العشار هي النوق، يقول: تعطيل العشار لوجود "الأوتومبيل وبوابير" سكة الحديد، فالناس استغنوا عن ركوب الإبل لوجود السيارات وقاطرات السكة الحديدية، -مثلاً- مع أن هذا يوم القيامة، ومثله: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} [التكوير:5] هذا -أيضاً- يوم القيامة، تحشر الوحوش فيقتص للشاة القرناء من الشاة الجلحاء؛ ثم يقال لها: كوني تراباً وهو يقول: (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) أي: جمعت في حديقة الحيوان كما هو واقع، ثم أخذ يتكلم عن حديقة الحيوان، وأنه لا يجوز جمع الحيوانات في الحدائق، إلى آخر ذلك، وفعل مثل ذلك بأحاديث كثيرة، فأردت أن أنبه إلى أن هذا مسلك خطير، والغريب أنه في آخر الكتاب لما تكلم عن الطائفة المنصورة وأنها باقية قال: -غفر الله لنا وله- فبنا وبأمثالنا، يدفع الله الضلال عن هذه الأمة، بل لا نبالغ إذا قلنا -طبعاً (نا) هذه نون الجمع لكنه عظم نفسه- لا نبالغ إذا قلنا قد وردت الإشارة إلينا والحمد لله على نعمته، وذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم: {إذا ظهرت فيكم السكرتان: سكرة الجهل وسكرة المال؛ فالقائمون بكتاب الله سراً وعلانية كالسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار} يقول: فليس في مغربنا بل ولا في الشمال الإفريقي أحد قائم بالكتاب والسنة إلا أنا! هذا لا شك أنه غير صحيح.
فنقول سامحه الله وغفر الله لنا وله.