وإنني أذكر لك في هذه المناسبة قصة طريفة يجب على كل شاب أن يتأملها, وهذه القصة في الأصل رواها البخاري ومسلم في صحيحيهما, ولكنني سأذكرها بشكل أوسع مما في الصحيحين حتى تظهر بصورتها المتكاملة.
وهي أن رجلاً من بني إسرائيل كان يشتغل في التجارة, فوجد أن التجارة تزيد يوماً وتنقص يوماً, ففي بعض الأيام تكثر أمواله وتنمو تجارته، وفي أيام أخرى تكسد تجارته وتقل أمواله, فقال: لا بد أن أبحث عن تجارة لا تبور, فسأل أهل العلم، فدلُّوه على العبادة والتزهد والرهبانية فبنى له صومعة، وجلس يتعبد فيها, وكانت له أم تحبه أشد الحب وأزكاه, فتأتي إليه، وتصيح من أدنى الصومعة باسمه -وكان اسمه جريج - فتقول له: يا جريج , فيطل عليها من أعلى الصومعة، فتحدثه وتبين له حاجتها, فيقضي ما تحتاجه من الأمور، أو تكتفي برؤيته, وقد رضيت بذلك، واطمأنت به.
وفي أحد الأيام جاءت كعادتها إلى أسفل الصومعة، وصاحت بأعلى صوتها: يا جريج يا جريج! فصادف أن جريجاً كان يصلي، فوقع في حيرة! يا رب! أمي وصلاتي -هل أجيب نداء أمي أم أستمر في صلاتي وعبادتي- فلم يجبها, وغلَّب أن يستمر في عبادته؛ ثم صاحت به مرة أخرى: يا جريج يا جريج! فقال بينه وبين نفسه: يا رب! أمي وصلاتي, واستمر في عبادته؛ فنادته مرة ثالثة, فقال: يا رب! أمي وصلاتي, واستمر على عبادته, فغضبت أمه من ذلك، وقالت: أسأل الله ألا يميتك حتى يريك وجوه المومسات -المومسات جمع مومس, والمومس هي: البغي الزانية والعياذ بالله- وقد كنت أتعجب من هذه الدعوة، وأتساءل! لماذا اختارت أم جريج هذه الدعوة؟! ولو دعت عليه بالفاحشة لوقع فيها كما ورد؛ لكن الله عز وجل صرف لسانها عن هذه الدعوة؛ فدعت عليه بهذه الدعوة وهي أن يريه الله المومسات, فكنت أتعجب، وأتساءل عن سر اختيارها لهذه الدعوة, حتى ظهر لي، والله أعلم أن مناسبة هذه الدعوة: أن جريجاً لما كانت العادة أنه إذا نادته أمه أشرف عليها من أعلى الصومعة, وكلمها وكلمته وانبسطت إليه, فرجعت وقد قرت عينها بمخاطبتها لابنها, ففي هذه المرة حرمها من أن تنظر إلى وجهه أو ينظر إلى وجهها -بسبب انشغاله بالعبادة- فدعت عليه دعوة تناسب الخطأ الذي صدر منه, وكأنها تقول: أما وقد انشغلت عن النظر إلى وجه أمك؛ فإني أسأل الله ألا تموت حتى ترى وجوه المومسات.
ومرت الأيام وكان في هذه القرية امرأة بغي, يضرب المثل بحسنها وجمالها, فكان الناس يوماً من الأيام يتحدثون عن جريج، وما بلغ من العبادة, فقالت: إنني أستطيع أن أفتنه! فقالوا: فافعلي إن استطعتي؛ فخرجت وتجمَّلت وتعرضت له، فلم يأبه بها ولم يلتفت إليها, وظل مقبلاً على عبادته، فجاءت إلى راعٍ بقرب الصومعة، فأمكنته من نفسها, وقيل: إن هذه البنت كانت أيضاً راعية غنم, وقيل: إنها كانت بنت الملك, وقيل: إنها كانت بغي, والأقرب فيما يظهر أنها كانت بغي, لأنها لو كانت بنت ملك؛ لكان الغالب أن لا تلتفت إلى الراعي، ولا تمكنه من نفسها, فالأقرب أنها كانت بغياً, بل قد وردت بهذا روايات صحيحة.
فحملت من الراعي فسألها الناس: من أين حملت؟ قالت: هو من جريج , وبلغ الخبر ملك هذه القرية, فأرسل إلى جريج يطلب أن يحضر إلى مجلسه, فذهب مجموعة من الناس إلى الصومعة التي يتعبد فيها, وصوتوا إليه يطلبون منه النزول, وكان منشغلاً بصلاته فلم يلتفت إليهم, فبدءوا بالفئوس يضربون الصومعة ليهدموها, فلما رأى هذا الصنيع أتم صلاته، وأشرف عليهم، فقال: ما لكم؟ قالوا: انزل إلينا وبدءوا يسبونه ويشتمونه.
فتدلى من الحبل ونزل إليهم، فجرجروه وتلتلوه، وبدءوا يضربونه ويعيرونه، وما زالوا به، حتى ذهبوا به إلى مجلس الملك ولما كان في عرض الطريق مر ببيت كانت تجلس فيه النساء الزانيات والعياذ بالله ورأى النساء فيه، فتبسم! فقالوا: لم يتبسم حتى رأى بيت البغايا! -هذا دليل جديد على أن الرجل يظهر الإيمان والعبادة والنسك ويبطن خلاف ما يظهر- وأخبروا الملك بذلك بعد أن وصلوا إليه, فقال له الملك: أنت جريج الذي صار مثلاً لزهده وعبادته تفعل بالمرأة ما فعلت من وقاعها حتى حملت منك؟! قال: أو قد ولدت؟ قالوا: نعم, قال: فأين الغلام, فأحضروه إليه, فصلى جريج ركعتين، ثم جاء إلى الغلام فطعنه في بطنه بيده وقال له: باغوس -وباغوس يعني: صغير أو صبي- أسألك بالله من أبوك؟ فنطق هذا الغلام، وقال: أبي الراعي, فتعجب الناس وأكبروا جريجاً، وعظموه وبدءوا يتمسحون به ويطلبون منه الدعاء! وقالوا له: نبني لك صومعتك من ذهب, وقد هدموها, قال: لا، قالوا: نبنيها من فضة؟ قال: لا أعيدوها من طين كما كانت.
فسألوه: يا جريج لما رأيت بيوت الزواني، وأنت في طريقك إلى مجلس الملك ابتسمت! فلم كنت تبتسم؟! قال: إني قد رأيت بيوتهن، ورأيت وجوههن، فابتسمت، لأنني عرفت أن دعوة أمي قد أحاطت بي؛ فإنها دعت عليَّ ألا أموت حتى أرى وجوه المومسات, فلما رأيت وجوههن ابتسمت لذلك.
!! والقصة هي أولاً -كما ذكرت- قصة صحيحة, رواها البخاري في مواضع من صحيحه, ورواها مسلم والإمام أحمد وغيرهم.
وفي هذه القصة عبر كثيرة جداً من أهمها: العبرة الأولى: أن الإنسان يجب أن يعرف قدر أبويه, حتى وهو يشتغل بالعبادة، أو الدعوة، أو بالعلم النافع، أو بحفظ القرآن، وقد يقول قائل: هل أترك هذه الأعمال؟ أقول: لا, لكن عليك أن تتلطف بهما وأن تدرك أن برهما واجب, خاصة إذا احتاجا إليك, ولا يعدم الشاب الحكيم لا يعدم وسيلة صحيحة يستطيع بها أن يوفق بين بر الوالدين، وبين القيام بالواجبات الأخرى المنوطة به.
العبرة الثانية: وفي القصة أيضاً دليل على أن دعوة الأم على ابنها مستجابة, ولو كان الابن منشغلاً، ومنصرفاً في أمور حميدة, فإن هذه المرأة دعت على ابنها فأجيب دعاؤها، ولذلك فعلى الشاب أن يتقي دعوة أبويه، وأن يحرص على كسب رضاهما، ودعواتهما الصالحة.
وفي القصة عبر ودروس أخرى قد لا يتسع المجال لسردها, وبإمكان من يحرص على أخذ الفوائد من هذه القصة أن يرجع إلى فتح الباري، في كتاب الأنبياء ليجد الكلام المفصل الذي ذكره الإمام الحافظ ابن حجر حول هذه القصة.