الجانب الأول: جانب الحنان والعطف: فقد كان قلبه عليه الصلاة والسلام معموراً، بحبهن، والعطف عليهن، والرفق بهن، والحرص على إدخال السرور إليهن بكل وسيلة، فقد روى أبو هريرة كما في الصحيحين: {أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل الحسن بن علي وكان عنده الأقرع بن حابس التميمي، فتعجب الأقرع، وكان رجلاً من الأعراب، فقال: إني لي عشرة من الولد، والله ما ما قبَّلتُ أحداً منهم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: من لا يَرْحَمْ لا يُرْحَمْ} وفي لفظٍ قال عليه الصلاة والسلام: {أو أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك!!} أن يكون لك عشرة من الولد فلا تقبلهم، ولا تشمهم، ولا نفرح، ولا تطرح بهم، من يفعل هذا الإعراض، فالرحمة منزوعة من قلبه، ومن لا يرحم لا يُرحم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
وإذا كان هذا شأنه مع الحسن أو مع الحسين، فشأنه مع أمهما، ومع خالاتهما، بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد وأقوى، فحب الولد أعظم من حب ولد الولد، وفي الصحيحين أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهو حاملٌ أمامة، وأمامة هذه هي بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبوها هو أبو العاص بن الربيع بن عبد شمس، وكان صهراً للنبي صلى الله عليه وسلم، مدحه الرسول عليه الصلاة والسلام وقال: {وعدني فوفاني، وأثنى عليه خيراً} وَحَمْلْ النبي صلى الله عليه وسلم لـ أمامة بنت بنته ربما يكون -والله أعلم- بعد وفات أمها، حيث أشفق عليها، وحنَّ عليها صلى الله عليه وسلم بعد فقد أمها، فخرج بها أو كان يخرج بها معه إلى الصلاة، فيصلي وهو حاملها، فإذا سجد وضعها، وإذا قام حملها، وهذا الحديث كما سبق في صحيح البخاري وصحيح مسلم، وهو عجبٌ من العجبْ، هذا الرسول صلى الله عليه وسلم الذي كان وقته كله معموراً بالعلم والتعليم والجهاد والدعوة، ما بين سفر وإقامة، واستقبال وفود وإرسال سرايا أو بعوث، وخروجٍ في مغازٍ، ونزول الوحي، وتعليم وصلاة وقراءة، هذا النبي المختار صلى الله عليه وسلم، على رغم امتلاء وقته بهذه الأعمال الجليلة لا يغفل عن هذه الصبية الصغيرة، أمامة بنت بنته، فيعزيها عن فقد أمها بأن يحملها على كتفه صلى الله عليه وسلم وهو خارج إلى الصلاة بالمسلمين، وكأن هذا إعلان أمام المسلمين كلهم بأن الإسلام ورسول الإسلام صلى الله عليه وسلم يأمر بالعطف على الأولاد، والرفق بهم، والحنو عليهم.
وقد يقول قائل: إن هذا الأمر أمرٌ جِبِلَّيْ أو عاطفي عند كل أب، فالواقع أن هذا أمرٌ صحيح، فقد ركز في قلوب الآباء العطف على الأبناء حتى الحيوانات، وقد ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح قال: {إن الله عز وجل خلق مائة رحمة، أو جعل مائة رحمة، فأنزل منها رحمةً واحدةً في الأرض، فبها يتراحم الناس والدواب، حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه} إلى هذا الحد.
لكن تعجبون أيها الإخوة إذا علمتم أن القوم الذين تنكبوا هدي الله عز وجل، وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، قد مسخت فطرهم، التي فطروا عليها، والتي ما زالت تتمتع بها الحيوانات، قد مسخوا وتغيروا، ولذلك ذكرتُ فيما سبق أنهم في البلاد الكافرة لا يحنو الأب على ابنه، ولا يعطف عليه، وإن حنا عليه في طفولته وصغره بعض الحنو، إلا أنه بعد ما يبلغ سن الحادية عشرة أو الثالثة عشرة، أو الرابعة عشرة، ذكراً كان أو أنثى، يفقد الأب عطفه عليه، فيخرجه من بيته، ويأمره أن يقوم بإعالة نفسه، وأن يدبر شئونه بنفسه، ويبين له أنه ليس لديه استعداد أن ينفق عليه، أو يعيله، ولا يأويه في البيت إلا بمقابل الأجرة، وقد لا يلقاه إلا في الشهر مرة، أو في الشهرين مرة، فيشير له بيديه هكذا بالسلام، وهو ماشٍ في عرض الطريق لا يقف، ولا يسائله عن حاله.
وهذه الأمور الموجودة عندهم من مسخ الفطرة وانحرافها يمكن أن تتسرب إلى المسلمين إذا لم يهتموا بمراجعة هدي النبي صلى الله عليه وسلم ومحاولة أن يكون عطفهم على أولادهم، وحبهم لهم، وشفقتهم عليهم، مع كونه فطرياً أن يكون أيضاً بنية واحتساب حتى يثاب عليه الإنسان، ويزيد منه.
ولم يكن اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بالأولاد الصغار، -ذكوراً كانوا أو إناثاً- مقصوراً على بناته عليه الصلاة والسلام، أو على بنات بناته، بل كان شاملاً لأطفال المسلمين كافة، فكان المسلمون إذا ولد عندهم ولد، جاءوا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيحنكه، ويبرك عليه، وربما بال الصبي في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، فدعا بشيءٍ من الماء فرشه عليه.
وقد روى البخاري في صحيحه: {عن أم خالد بنت خالد -وهي كانت صبيةً صغيرة- أنها قالت: إن النبي صلى الله عليه وسلم جاءته ثياب، فكان فيها ثوبٌ أخضر صغير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من ترون نعطي هذا؟ يستشيرهم، فسكت الناس!! فدعا النبي صلى الله عليه وسلم، بـ أم خالد بنت خالد هذه -نفسها- فجيء بها محمولة -وكونها محمولة يدل على صغرها- فألبسها النبي صلى الله عليه وسلم الثوب بيده!! وقال لها: أبلي وأخلقي، وفي بضع النسخ، أبلي واخلفي} فقوله أبلي وأخلقي، يعني من الأخلاق، وكأنه يدعو لها أن يطول عمرها، حتى إخلاق هذا الثوب، فهو دعوةٌ بطول العمر، وأما واخلفي، فالمعنى دعاءٌ بأن يخلف الله عليها غيره إذا بلي هذا الثوب، أخلف الله عليها غيره، قال لها: أبلي وأخلفي.
وكان في هذا الثوب خطوط وأعلام خضر، فكان النبي صلى الله عليه وسلم، يشير إليها ويقول: {هذا سنا يا أم خالد} وكلمة (سنا) معناها في لغة الحبشة: أي حسن جميل، هذا جميل!! فانظر في هذا الحديث، رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف حتى أطفال المسلمين، فيسأل عن صبية اسمها أم خالد، ثم يدعو بها، ثم يلبسها الثوب بيده صلى الله عليه وسلم، ثم يدعو لها بأن تبليه، وتخلف غيره، أو يخلف الله عليها غيره، ثم يضفي على هذا الثوب صفة الجمال والحسن الذي يفرح به الصبي الصغير إذا قيل له: إن هذا الثوب الذي عليك ثوبٌ حسنٌ جميل، ثم يكنيها صلى الله عليه وسلم بـ أم خالد، وكل هذه الوقفات تدل على أسلوب الرسول صلى الله عليه وسلم في معاملة الصغار، وعطفه عليهم، ولطفه بهم، ومحبته لهم، وهذا كان منه صلى الله عليه وسلم، أولاً: أمرٌ جَبَلَهُ الله عليه، لأنه صاحب قلبٍ كبير، يسع محبة المؤمنين جميعاً، حتى من يخطئون عليه، ولا يعرف الحقد، أو الحسد، أو البغضاء، أو الكراهية إلا أن تكون في ذات الله عز وجل، فكان قلبه قلباً كبيراً يتسع لمحبة هؤلاء، وحتى الأطفال.
ثم كان هذا -ثانياً- تعليماً منه صلى الله عليه وسلم لأمته كيف نعتني بالأطفال، وكيف ندخل السرور عليهم، وقد يظن بعضهم أن في هذا شيئاً من المشغلة، أو إضاعة الوقت.
والواقع الذي يشهد به التاريخ، وتشهد به الحياة القائمة اليوم، وتشهد به العلوم التربوية التي درسها العلماء في هذا العصر أن مرحلة الطفولة تؤثر تأثيراً كبيراً في شخصية الإنسان في جميع مراحل حياته بعد ذلك، فالإنسان الذي تلقى في طفولته العطف والحنان والحب والرحمة؛ تجد أنه بعدما يكبر يكون إنساناً عطوفاً، حنوناً، محباً، رحيماً، مشفقاً، محسناً إلى الناس، والإنسان الذي حرم من العطف والحنان، وعاش حياة فيها جفاء، وفيها قسوة، وليس فيها عطف، ولا لطف؛ تجد أنه حين يكبر لا يعرف العطف، ولا يعرف الحنان، ولا يعرف المحبة، وتجد أنه شخصٌ قاسٍ غليظ على الآخرين.
ولو نظرتم في بعض الجبابرة الذين عرفهم التاريخ، وسجل لهم الأعمال السيئة من القتل وسفك الدماء، وتخريب الديار، وتحطيم المجتمعات لوجدتم أن غالبهم إن لم يكن كلهم من الذين فقدوا العطف والحنان في طفولتهم، فشعروا بالحقد على المجتمعات، فما إن كبروا وصار بأيديهم شيءٌ من القدرة على ذلك حتى حطموا ما استطاعوا، ولو نظرتم إلى الناس الذين أحدثوا آثاراً حميدة في الحياة، وأحسنوا إلى عباد الله ما استطاعوا، ونفعوا الخلق بما قدروا، لوجدتم أنهم جميعاً أو غالبهم من الذين تلقوا في طفولتهم ومطلع حياتهم تربيةً حسنة، ورعاية من أبويهم، أو ممن يقوم مقام الأبوين، فكم من يتيم -يتيم الأبوين أو يتيم الأب- ومع ذلك كان له من الأثر في التاريخ الشيء العظيم، لأنه لقي من يحسن إليه ويتعاهده بالرعاية في طفولته، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يموت أبوه وهو حملٌ في بطن أمه، ثم تموت أمه وهو صبيٌ صغير، فيقيض الله عز وجل عمه أبا طالب، فكان يعطف عليه ويقدمه حتى على أولاده.
فالمهم أن من وفق في طفولته للرعاية والحنان يصبح لهذا الأمر تأثيرٌ بليغٌ في شخصيته بعدما يكبر، ومن حرم من العطف والحنان، فإنه حين يكبر يصبح قاسياً غليظاً لا يشعر بالود ولا بالرحمة، هذا جانب في عناية النبي صلى الله عليه وسلم بالمرأة، وهو جانب العطف والحنان والمحبة.