المرأة كأم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم

فأما في ما يتعلقُ بمعاملته صلى الله عليه وسلم للمرأة باعتبارها أماً: فإن حكمة الله تبارك وتعالى اقتضت أن يموت والدا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشرك، وقبل أن يبعث صلى الله عليه وسلم، ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم كان من الشرائع التي أنزلت عليه؛ وهي شريعةٌ موافقة للفطرة منسجمة معها، جاءت بها جميع الديانات السماوية الأمر ببر الوالدين، والإحسان إليهما أحياءً وأمواتاً، عرفاناً بفضلهما وجميلهما المتقدم للإنسان، ومقابلةً لمحبتهما، لابنهما، وعطفهما عليه، وشفقتهما عليه.

فروى الإمام مسلم في الصحيح، عن أبي هريرة رضي الله عنه {أن النبي صلى الله عليه وسلم زار قبر أمه وقد قبرت أمه بالأبواء زار قبر أمه صلى الله عليه وسلم فبكى بكاءً طويلاً، وأبكى من حوله، وقال لأصحابه: استأذنت ربي أن أزور قبر أمي فأذن لي، واستأذنته أن استغفر لها فلم يأذن لي} وقد ورد في طبقات ابن سعد وغيرها أنه صلى الله عليه وسلم بكى رقةً لها، ورحمةً لما يؤول إليه أمرها، حيث ماتت على الشرك، وحيث نهي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى، وورد في أمه نصٌ خاص، كما سمعتم، وهو قوله صلى الله عليه وسلم، {واستأذنته أن أستغفر لها، فلم يأذن لي} .

وهكذا كانت معاملة النبي صلى الله عليه وسلم لمن أحسن إليه في الصغر كحضانته، ومنهن حليمة السعدية، ومنهن الشيماء بنتها، فقد جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستقبلها، وفرش لها رداءه، وأجلسها عليه، وهكذا كانت معاملته لـ أم أيمن، وكانت حاضنةً له صلى الله عليه وسلم في حياة أمه وبعد وفاتها، فكان يحبها ويقدرها ويحسن إليها، ويتعاهدها بالزيارة صلى الله عليه وسلم، ولذلك عندما مات صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر الصديق لـ عمر بن الخطاب كما في الصحيح: [[انطلق بنا إلى أم أيمن، نزورها كما كان صلى الله عليه وسلم يزروها، فلما دخلا عليها وجلسا عندها بكت، وكان المسلمون حديثي عهد بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالا لها، ما يبكيك؟ أما علمت أنما عند الله خيرٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: أما إني لأعلم أن ما عند الله خيرٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكني أبكي لانقطاع الوحي من السماء، فهيجتهما على البكاء، فأخذا يبكيان معها]] .

وهكذا أدركت هذه المرأة المؤمنة أمراً عظيماً وخطباً جللاً في وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ليس مجرد فقد شخصه عليه الصلاة والسلام، وإن كان هذا فيه من الحزن العميق، على من عاشوا معه، وسافروا معه، وجلسوا معه، وصلوا خلفه، وسمعوا كلامه، وأمنَّوا على دعائه؛ إن كان في فقد شخصه عليه الصلاة والسلام خطباً جسيماً إلا أن هناك ما هو أعظم من ذلك وهو فقدانهم نزول الوحي من السماء، وهذا ما أدركته أم أيمن رضي الله عنها، فهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم، يزور قبر أمه، ويحسن إلى حاضناته -كما سبق- فهذا دليل كبير على مكانة المرأة كأمٍ وكحاضنة ومرضعةٍ، وكمربية في حياة النبي عليه الصلاة والسلام حين يهتم بإبراز هذا الجانب بشكلٍ عملي، فإنه يعطي المسلمين الأسوة والقدوة في ذلك.

وما أحوج المسلمين اليوم إلى أن يعرفوا هذا الأمر وقد تفككت روابط الأسر في كثيرٍ من البلاد، وأصبح الابن في البلاد الكافرة لا يعرف أباه ولا أمه، ولا يهتم به، ولا يحسن إليهما، ولا يهمه أمرضا أم شقيا، أعاشا أم ماتا، اغتنيا أم افتقرا، وأصبح الابن في كثيرٍ من الأحيان قد يسيء إلى والديه ويعتدي عليهما، وذلك بسبب نغمة الحرية التي ينادون بها، فهم يزعمون أن من الحرية أن يفعل الابن ما يشاء، وتفعل البنت ما تشاء، ويفعل الأب والأم ما يشاءان ولا علاقة لأحد بأحد، ولا أمر لأحدٍ على أحد، حتى إن الابن مثلاً ولو كان صغيراً في مقتبل عمره، لو أدبه أبوه وضربه فإنه يرفع سماعة التلفون ويتصل بالشرطة أو بالبوليس، فيحضر إلى البيت ويأخذوا الأب ويحققوا معه، وقد يدينونه بالاعتداء على ابنه، وهذا ليس خيالياً أو كلاماً يقال، هذا والله واقع في كثير من البلاد الكافرة، وقد تسربت عدواه إلى بلاد المسلمين.

ولعل من أهم أسبابه: تقصير الأبوين في العناية بأبنائهما- كما سيأتي في فقرةٍ قادمة- ولكن المقصود أن الأبناء بحاجةٍ إلى تذكيرهم بحقوق الأبوين ومكانتهما، ووجوب الإحسان إليهما، وتحمُّل ما قد يصدر منهما من التصرفات التي لا تعجب الأولاد، وهذا الولد هو الآن ابن، وهو بعد وقتٍ غير طويل أب أو أم، كما يفعل لأبويه سيُفعل معه، وكما يريد أن يكون أبناؤه معه فيجب أن يكون كذلك مع والديه.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015