المزاح المحمود

وهذا المزاح المحمود هو ما كان على سبيل الاعتدال، لا يشوبه شائبة مما كره الله عز وجل أو حرم، ولا يكثر فيكون دليلاً على خفة عقل صاحبه أو حمقه، أو يكون سبباً لإهانته ومهانته وذلته وزوال هيبته، أو يكون حطاً من قدره، بل ويكون على سبيل الاعتدال، كما قال أبو الفتح البستي رحمه الله، وهو الشاعر الناظم الحكيم المعروف، صاحب القصيدة النونية المشهورة في الحكم والأمثال، قصيدة "عنوان الحكم" يقول أبو الفتح البستي في بعض شعره: أفد طبعك المكدود بالجد راحة يجم وعلله بشيء من المزح ولكن إذا أعطيته المزح فليكن بمقدار ما يعطى الطعام من الملح أفد طبعك المكدود بالجد راحة يعني إذا كثر عليك الجد فحاول أن تغير بشيء من المزاح؛ يجم: أي: تعود إليه قوته ونشاطه، وعلله بشي من المزح، "ولكن إذا أعطيته المزاح فليكن بمقدار ما يعطي الطعام من الملح": فإن الملح إذا زاد ضر -كما هو معروف- وكان سبباً في فساد الطعام.

ومن المزاح المحمود المعتدل المزاح مع النظراء والإخوان بقصد التسلية وإزالة الهم عنهم، وإدخال السرور عليهم، كالتبسم إليهم والمباسطة والملاينة، وغير ذلك من الشيء الحسن، كما سبق من ضروب ذلك، وقد كان بعض الصالحين يكون كما كان إبراهيم بن أدهم وغيره، مع أصحابهم يمازحهم ويباسطهم ويلاينهم، فإذا جاء رجل غريب أعرض وانقبض وقال: هذا جاسوس، ثم ترك معه المزاح؛ وذلك لأن المزاح مع من لا تعرف قد يكون سبباً في المهانة؛ لأنه ربما يظن أن هذا دليلاً على خفة العقل أو الطيش أو قلة الفهم وهو كذلك.

فلا ينبغي للإنسان أن ينطلق بالمزاح إلا مع من يعرف، أما من لا يعرف، فينبغي أن يبتسم في وجهه ويلين له القول، لكن لا يتسرع بشيء من المزاح لأنه يكون دليلاً على خفة عقله وقلة فهمه ونبله.

ومن ذلك أيضاً المزاح مع الأهل والزوجة {فالرسول عليه الصلاة والسلام سابق عائشة فسبقته في المرة الأولى، فلما كثر وثقل بها اللحم سبقها، فقال عليه الصلاة والسلام هذه بتلك} وقصته في ذلك معروفة.

ومنه: حديث أم زرع، وهو في صحيح البخاري، وهو حديث طويل، ومع ذلك كان الرسول عليه الصلاة والسلام جالساً على كثرة مشاغله، وعائشة رضي الله عنها تقص له قصة حديث أبي زرع، وهو حديث طويل وفيه طرائف، وعبر وعجائب، وأنصحكم بأن تعودوا إليه وتقرءوه، وفيه من غريب الألفاظ وجميلها وبليغها مالا ينقضي منه العجب.

وأصل الحديث: {اجتمعت إحدى عشرة امرأة في الجاهلية، فتعاقدن وتعاهدن على ألا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئاً، فقالت الأولى: زوجي العشنق إن أسكت أعلق، وإن أنطق أطلق، وقالت الثانية: زوجي مالك.

وما مالك؟ له إبل قليلات المسارح كثيرات المبارك، إذا سمعن صوت المزهر أيقن أنهن هوالك} وقالت الثالثة، والرابعة -كل واحدة تذكر عن زوجها الزين والشين، وهو حديث عجيب-.

والشاهد أن عائشة قالت في آخره: قالت الحادية عشر أم زرع تقول: زوجي أبو زرع، وما أبو زرع؟ فذكرت أبا زرع وصفاته، ثم قالت: {أم أبي زرع، وما أم أبي زرع؟ -وذكرت صفات أمه-.

ثم قالت: ابن أبى زرع مضجعه كمسل شطبة، ويشبعه ذراع الجفرة.

ثم قالت: ابنة أبي زرع ما ابنة أبي زرع؟ غيظ جارتها، وطوع أبيها وأمها المهم، قالت أم زرع: إن أبا زرع خرج من بيتها، فوجد امرأة جميلة، فنكحها وطلق هذه، قالت: فتزوجني رجل آخر فأناخ علي من النعم والإبل وكذا وكذا، وقال لي: كلي أم زرع وميري أهلك -كلى وأرسلي لأهلك- قالت: فلو جمعت كل شيء أعطانيه ما بلغ أصغر إناء من آنية أبي زرع -لأن الحب للحبيب الأول-.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة أنا لك كـ أبي زرع لـ أم زرع} هذا الحديث جاء في صحيح البخاري، وجاء في رواية: {أنه طلق وأنا لا أطلق} .

من مباسطة الرسول -عليه الصلاة والسلام- أيضاً لأصحابه قصته المعروفة مع عائشة حين قامت على كتفه تنظر إلى الحبشة في يوم العيد، وهم يلعبون في المسجد حتى سئمت ثم انصرفت رضي الله عنها.

وكذلك كما في الصحيحين: {لما علم النبي صلى الله عليه وسلم أن جابراً تزوج فقال له: بكراً أم ثيباً؟ قال: يا رسول الله بل ثيب قال: هلا بكراً تلاعبها وتلاعبك، وتضاحكها وتضاحكك} .

وفي رواية لـ مسلم قال: {أين أنت من الجارية ولعابها} ولعابها أي: ملاعبتك لها، وذلك لأنه يكون بين الزوجين من المباسطة والملاعبة ما بيَّن الله تعالى في كتابه حيث قال: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21] .

وقد كانت عائشة رضي الله عنها تلعب بالبنات، كما في الصحيحين، وكان معها صواحب لها، فإذا جاء النبي صلى الله عليه وسلم يتقمعن -أي: يستحين من الرسول عليه الصلاة والسلام- وتخرج عائشة قالت: {فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسربهن إليها} أي: يجعلهن يذهبن إليها رضي الله عنها- فلا بأس أن يكون للإنسان وقت يباسط فيه أهله، ويطيب خواطرهم، ويلاينهم ويمازحهم.

ولكن -وتفطنوا لما بعد لكن- كم هو مؤسف أن يكون الكثير منا ربما يقوم بهذا الواجب خير قيام، لكن لو نظرنا إلى الواجب الآخر، الذي سبق التنويه إليه في غير مناسبة، وهو تعليم الأهل وتفهيمهم، وأمرهم ونهيهم، وترغيبهم فيما عند الله، وحثهم على الخير؛ لوجدت الكثيرين مقصرين في هذا الأمر، وهذا خطأ، بل ينبغي أن يكون الإنسان قائماً بواجبه بقدر ما يستطيع هنا وهناك.

ومن المزاح المحمود أيضاً المزاح مع الأولاد، ومن قصص النبي صلى الله عليه وسلم مع الحسن والحسين وغيرهما من ذلك الشيء الكثير، مما لا أريد أن أذكره؛ وذلك لأنني سوف أخصص -إن شاء الله- درساً عن الرسول صلى الله عليه وسلم مع الأطفال، بعنوان: (أطفال في حجر رسول) فأدع الحديث عن هذا لتلك المناسبة إن شاء الله.

ومن ذلك: ممازحة الإنسان في الأمور التي ليس فيما إثم ولا ضرر، ولا إفراط ولا غلو، ولا زيادة، فهذا مزاح محمود كما سلف.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015