في كتاب الأذكياء لـ ابن الجوزي، ذكر في مطلعه: العقل، وفضل العقل وما ورد فيه، واستطرد فيه بذكر نقول عن المتقدمين والمتأخرين في قوة الفطنة والذكاء، ثم ذكر بعد ذلك الحيل وأنواع المحتالين، وهذا فيه بعض الفوائد، والأشياء التي لا تخلو من فائدة، أي بعض الحيل التي تفتقت عنها بعض الأذهان يستفيد منها الإنسان.
ومن طريف ما ذكر في ذلك، أن أبا الحسن بن السماك، كان واعظاً في المدينة في الجامع، ولكنه كان من المتصوفة، وكان واعظاً على طريقة المتصوفة، ليس عنده من العلم والفقه شيء، قال: فيوم من الأيام كان على المنبر فدفعت إليه رقعة -سؤال من الأسئلة دفع إليه من أجل أن يقرأه- فتعجل وقرأ فإذا فيها: فضيلة الشيخ الإمام العالم؛ رجل توفي وترك وراءه فنظر فإذا المسألة مسألة فرضية، والرجل ما عنده في هذا باع، ولا يستطيع أن يقسم مسألة من المسائل، فما أسرع ما تخلص من ذلك! وقال: أيها الناس، أنا أتكلم على مذاهب قوم إذا مات الميت منهم لا يترك وراءه شيئاً.
يقصد الصوفية، الصوفية يتظاهرون بالزهد في الدنيا، ولا يجمعون الأموال، فإذا هلك الهالك منهم خلف وراءه بنتاً، وبنت ابن، وزوجة، وأماً، وعشرين ولداً ذكراً، لكن لم يخلف وراءه مالاً يقسم، وبالتالي لا يسأل عن مسائلهم؛ لأنه لم يخلف وراءه شيئاً يقسم، فقال: أنا أحدثكم على مذاهب أقوام إذا مات الميت منهم لم يخلف وراءه شيئاً.
وأقول: مذاهب هؤلاء الأقوام الذين ذكرهم مذاهب مذمومة غير محمودة، وكفى بهدي الأنبياء والمرسلين، والصحابة والتابعين هدياً، فإننا نجد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أغنياء أكابر، بل منهم من العشرة المبشرين بالجنة، كـ عثمان، وطلحة، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم، كانوا من كبار الأثرياء والأغنياء، وحتى النبي صلى الله عليه وسلم خلف وراءه شيئاً بعد وفاته عليه الصلاة والسلام، وحتى فقراء الصحابة خلفوا وراءهم شيئاً، لكن المقصود ظاهر من مثل هذه الطرفة.
ومن ذلك ما فعله المهدي الخليفة، فقد كان في مجلسه القاضي شريك، وفي مجلسه وزيره عيسى بن موسى، فأراد المهدي أن يوجد بينهما خصومة، فقال للقاضي: لو شهد عندك وزيري عيسى بن موسى بشهادة، هل تقبلها؟ وأراد أن يوقع بينهما، فما أسرع ما تخلص القاضي، وقال للخليفة: مثل هذا الوزير لا يزكيه إلا الخليفة، فإن زكاه الخليفة قبلت شهادته.
فنجح القاضي في التخلص من الموقف، ونجح في جعل القضية تقع بين الخليفة ووزيره؛ لأنه إن زكاه أو ما زكاه صارت القضية بينهما، فرمى الكرة في ملعب الخليفة، فهذا من التخلص المحمود أيضاً، وليس فيه حرج إن شاء الله ولا ذم ولا عيب.
وفي كتاب ابن الجوزي من الفوائد: أنه قد يُعلم بعض الآداب -أحياناً- ونحن مأمورون بالإنصاف، فإذا كان في الكتاب فوائد ولو قليلة نذكرها، بل نبدأ بها، ومن ذلك أنه ذكر القصة المشهورة عن العباس لما قيل له: أنت أكبر أم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أنا أسن منه، وهو أكبر مني.
هذا من حسن الأدب، تلطف في العبارة، ما أَحبَّ أن يقول أنا أكبر من رسول الله، لأن هذا من الممكن قد يحمل على كبر الشأن والمنزلة، والقدر، فقال: أنا أسن منه، وهو أكبر مني، أي: أعظم شأناً مني.
وفي ابن الجوزي من الأشياء مالا غاية فيه إلا الإضحاك، أشياء المقصود فيها الضحك فقط، منها مثلاً يقول: إن رجلاً قال لصاحب له يهدده: لئن لطمتك لطمة لأبلغن بك المدينة المنورة: فقال لعلك تثني بأخرى عسى الله أن يكتب لي الحج على يديك.
هذه من أجل الضحك، لكن هل فيها فائدة تعليم؟ ليس فيها شيء.
وفي نهاية الكتاب أخبار ونكت عن الأطباء، والمتطفلين، واللصوص، والصبيان، والنساء، ومن يسميهم بعقلاء المجانين.
وفي الكتاب في الواقع تساهل كثير، وقصص وطرائف ونكت، أستطيع أن أقول: إنها سخيفة، وسمجة، وباردة، وقل ما شئت، وليست لائقة بهذا الكتاب، وينبغي الحذر منها، وبعض الإخوة قد يتساهل، ويقول: قد أوردها ابن الجوزي وهو إمام.
نعم إمام لكن لا يتابع فيما زل فيه، نحن نلتمس له العذر، فإن لم نجد له عذراً قلنا: غفر الله لنا وله، ولكن لا يتابع فيما زلت به قدمه، فالإنسان بشر.