لا نامت أعين الجبناء

رابعاً: (لا نامت أعين الجبناء) : إن الشجاعة معنى كبير, وسر خطير, وقد أصبحنا نعشقها ونفرح بمن يتحلى بها, إنها هي من أسباب كون الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يستطيعون تحطيم سلطان العادة, وطاغوت العرف, ويَتَحَدَون أقوامهم وأممهم، ويصبرون ويصابرون على رغم من قلة الناصر والمعين, وكثرة المعاند والمخالف, وعلى رغم التلبيس والتدليس.

فما الذي جعل رجلاً كموسى عليه السلام يقف أمام طاغية متألهٍ متجبر كفرعون! ويقول له: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً} [الإسراء:102] .

ما هو الذي جعل رجلاً نبياً مختاراً -كإبراهيم عليه الصلاة والسلام- يحطم الأصنام وهو يعد فتىً في مقتبل العمر! ثم يقول لقومه وعلى رأسهم النمرود الطاغية الأكبر: {أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنبياء:67] .

ما الذي جعل رجلاً -كمحمد صلى الله عليه وسلم- يجمع قومه، وفيهم أبو لهب وأبو جهل وعتبة وشيبة وأمية بن خلف والملأ من المستكبرين، ثم يقف بين أيديهم منذراً محذراً {إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، قولوا لا إله إلا الله تفلحوا} .

ثم ما الذي جعل المجددين يستطيعون أن يصبروا على عملهم، ويجاهدوا ويعلنوها صريحة قوية مدوية؟! لماذا وقف عمر بن عبد العزيز وتحدى كل الأمور المعتادة في بني أمية، الذين كان واحداً منهم وينتسب إليهم, وكانوا يخشون أن يغير ملكهم, أو عادتهم وميراثهم, فيقف عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- نصيراً للحق مدافعاً عنه, قائماً على الظلم, محارباً له, راداً للحقوق إلى أهلها, لا يأمر بخير إلا فعله, وكاد الأمر أن يتم؛ لولا السم.

ما الذي جعل رجلاً -كالإمام أحمد بن حنبل - يقف فيقارع الظالمين في مسألة خلق القرآن! ويصبر على عقيدته التي ورثها عن الأنبياء والمرسلين, ويصابر عليها, ويرضى بالسجن والجلد، والتعذيب والمطاردة والتضييق والحرمان من التدريس، من التعليم، من المحاضرات، من الإفتاء ومن غير ذلك, حتى أذن الله تعالى له بالفرج وكتب له الذكر الحسن، حتى أنه -رحمه الله- كان يستاء من ذلك ويكره الشهرة أشد الكراهية.

ما الذي جعل رجلا -كالإمام ابن حزم - يقف ويتحدى من حوله, ويصبر ويصابر! فإذا قيل له: يا رجل تَحَفَّظ ولا تتعجل! أنشأ يقول: قالوا: تحفظ فإن الناس قد كثرت أقوالهم وأقاويل الورى محن فقلت: هل عيبهم لي غير أني لا أدين بالدجل إذ في دجلهم فتنوا وإنني مولع بالحق لست إلى سواه أنحو ولا في نصره أهن دعهم يعضوا على صم الحصى كمداً من مات من غيظه منهم له كفن قالوا: له أحرقوا كتبك ومزقوها ومنعوا من تداولها, وحذروا الناس منها, ووصفوها بأبشع الأوصاف, فأنشأ يقول: فإن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الذي تضمنه القرطاس بل هو في صدري يسير معي حيث استقلت ركائبي وينزل إن أَنزل ويدفن في قبري دعوني من إحراق رق وكاغَدٍ وقولوا بعلم كي يرى الناس من يدري وإلا فعودوا للكتاتيب بدأة فكم دون ما تبغون لله من ستري كذاك النصارى يحرقون إذا علت أكفهم القرآن في مدن الثغر ما الذي جعل رجلاً كالإمام ابن تيمية -رحمه الله- يصبر ويجهر بكلمة الحق، ويتحمل الأذى في سبيلها! فيسجن لمرات ويؤذى بل ويضرب أحياناً في الشارع، وهو إلى ذلك كله مجاهر معلن لا ينثني للرياح أبداً.

ما الذي جعل رجلاً كالإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب يقوم في بيئة قد انتشر فيها الشرك بألوانه, والبدع والخرافات, والكهنة, والسحرة وغير ذلك, وألوان المخالفات! فيقوم جاهراً بكلمة الحق، مجاهراً صابراً في ذات الله عز وجل، حتى نصره الله تعالى، وأصبح ما جاء به الإمام محمد بن عبد الوهاب من الحق هو الظاهر، كما قال الله عز وجل: {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف:14] .

ما الذي جعل رجلاً كالإمام الشوكاني -مثلاً- ينتصر للحق ويناضل في سبيله, ويلقى ما يلقى فيموت هو, ويبقى ذكره في الآخرين! وهكذا إن الشجاعة قوة في القلب, تجعل صاحبها لا يستوحش من الطريق, ولا ينفر من الوحدة, ولا يتخلى عن الحق مهما كلفته التضحيات, ولا ينافق ولا يجامل أو يحابي أو يداهن في دين الله عز وجل, إنه لا مكان في التاريخ للجبناء والمرتزقة والمطبلين أبداً, فإن الناس يركلونهم ويركضونهم، ويبقى الحق هو الذي تعشقه النفوس، وتتطلع إليه القلوب, وقد قال الله عز وجل {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171-173] .

إن من أبرز أخطائنا أن نغرس في نفوس أبنائنا, الخوف من كل شيء, نحرمهم من التجارب والمحاولات، بحجة أن هذا قد يودي بحياتهم.

فمثلا: نحن قد نخيف الولد الصغير من الكهرباء, أو من السيارة أن تصدمه وهذا صحيح ولا شك فيه؛ لكن! ما معنى أن تربية الجدة على الخوف من السحالي! فلا تذكر سالفة أو قصة إلا ذكرت فيه تلك السحاليات التي تأكل الأحياء من البشر, وتلتهمهم وتفعل بهم وتفعل.

ما الذي يجعلنا نخوف أولادنا -دائماً وأبداً- من تلك الأقراص الحامية التي نزعم أنها تنزل من السماء بأدنى سبب, حتى لو لم يكن مخالفة شرعية ولا معصية, مع أن فيه من الكذب والافتراء على الله عز وجل ما فيه؟! ما الذي يجعلنا نخوف أطفالنا -أحياناً- من رجال الشرطة, حتى نقول للطفل الصغير: إن مجرد إشاراتك بالإصبع إلى رجل الشرطة يعني أن تقطع أصبعك؟! ما الذي يجعلنا نخوف أولادنا، بل ونساءنا وكبارنا -أحياناً- من الجن, وكأن الجن والعياذ بالله يستطيعون أن يفعلوا كل شيء؟! أو من العين والسحر, وننسى أن نربيهم على التوكل على الله عز وجل, والثقة به, والاعتماد عليه, وكثرة الأوراد والقراءات والأدعية التي تحفظ العبد -بإذن الله تعالى- من شر شياطين الجن والإنس.

إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {إن الشيطان لا يدخل البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة} .

فالبيت الذي فيه ذكر الله, وفيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وفيه التربية على مكارم الأخلاق, لا مكان فيه للشيطان ولا مكان فيه لأولياء الشيطان من الجن والإنس, وفي الدائرة الأوسع، حينما نتجاوز دائرة البيت, ودائرة الطفل نجد أن هناك تخويفاً عالمياً من أولياء الشيطان، من الكفار، من اليهود -مثلاً- الذين أصبحنا نتحدث عن أسلحتهم التي يملكون, وخططهم التي يدبرون, وقدراتهم والتمكين لهم, أو النصارى وما يملكونه -أيضاً- وغيرهم من أمم الكفر، والله عز وجل يقول: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175] يعني إنما ذلكم الشيطان يخوفكم أنتم من أوليائه.

يكبر أولياءه في قلوبكم حتى ترهبوهم, فلا تقوموا بعمل, ولا بدعوة, ولا بجهاد, لأن الإنسان الذي يخاف لا يعمل ولا ينتج, لماذا نربى أنفسنا وشعوبنا وأممنا على الخوف من الدول العظمى وجيوشها الجرارة، وأجهزتها الضخمة، وأعدادها الرهيبة؟! بل لماذا نربى أنفسنا ومن تحت أيدينا من الشباب والطلاب وغيرهم على الخوف من أجهزة الأمن، ومن رجال المباحث، ومن المخابرات؟! حتى يتخيل الإنسان -أحياناً- أن هذه الأجهزة تدخل إلى جوفه مع الشهيق وترسل التقرير في الزفير كما يقول أحدهم, ويصبح الإنسان يخاف من ظله.

حتى صدى الهمسات غشاه الوهن لا تنطقوا إن الجدار له أذن.

! مثل ذلك -أيضاً- من ألوان الخوف وفقدان الشجاعة: الخوف من الفشل, والخوف من الخطأ, والخوف من الإخفاق.

إن من المؤسف أننا لا نحترم اجتهاد الإنسان, ولا نقدر عمله, بل -أحياناً- نعاقبه على اجتهاده عقاباً يحرمه ويحرم غيره في المستقبل حتى من مجرد التفكير في العمل, إنها منطقة محرمة والسلامة لا يعدلها شيء، والكثيرون يؤثرون أن يسلموا -لا لهم ولا عليهم- على أن يغامروا وقد تكون النتيجة غير مأمونة.

إن ذلك قتل للمواهب، ووأد للطموح، وقضاء على الإبداع, ويجب أن نعلم أن الذي لا يخطئ لا يمكن أن يصيب أبداً, ولكي نربي الشجاعة في نفوسنا، ونفوس من تحت أيدينا من الأولاد والبنات والرجال والنساء والأمم والشعوب, يجب احترام شخصية الإنسان، واحترام رأيه منذ الصغر, وفي كافة المراحل وعلى كافة المستويات, فأنا أقول لك: أي معنى لأن تولى ولدك أعمالاً، ثم تسفه رأيه فيها! وإذا قال لك: فلان، قلت: فلان لا يهمني, لا يهمك, ألأنه ولدك الذي تعرفه؟ لا! ينبغي أن تحترم شخصيته، ورأيه، واجتهاده، وعمله, وتسلم له تخصصه, وأي معنى لأن تفترض على ولدك كل شيء، ولا تعطيه مجالاً للاختيار والتفضيل أبدا؟! فالثوب أنت تختاره، والحذاء أنت تختاره, واللعبة أنت تختارها, والكتاب أنت تختاره, وكل شيء أنت تختاره, لماذا لا تعطي ولدك أو أخاك أو من تربيه فرصة في الاختيار؟! حتى المعلم أو الأستاذ أو الشيخ, لماذا لا يعطي تلميذه فرصة في اختيار الكتاب الذي يقرؤه, أو الطريقة التى يتعلم بها؟ أليس الشرع جاءنا بالشورى؟ والله تعالى يقول: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران:159] .

فيأمر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤيد بالوحي من السماء ويقول: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38] في وصف المؤمنين، ولم يكن أحد أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضى الله عنه، وكثيراً ما كان الصحابة أبو بكر أم عمر ومن بعدهم يقف ويقول: أشيروا عليّ أيها الناس، فالولد مع أبيه في عمله وتجارته وزراعته, والطالب مع مدرسه في طريقة التدريس، في أخذ المنهج وفي

طور بواسطة نورين ميديا © 2015