التوازن المفقود

خامساً وأخيراً: التوازن المفقود: إن التوازن مطلب شرعي، والله تعالى يقول {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77] .

وفي الحديث المتفق عليه حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: {إن لنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، ولزوجك عليك حقاً، -بل- ولزورك عليك حقاً، فآت كل ذي حقٍ حقه} , وإن أي زيادة في جانب أو غلو يقابلها نقص وتفريط من جانب آخر.

ولا تغلُ في شيء من الأمر واقتصد كلا طرفي قصد الأمور ذميم والمقياس في الزيادة والنقص هو النص, إما آية من كتاب الله، أو حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيح, أو إجماع من أهل العلم قائم ثابت.

قد يهتم الإنسان -أحياناً- بأمر من الأمور؛ لأن جِبِلَّتَه وتكوينه ومَلَكَتَهُ تقتضي ذلك, دون أن يلزم غيره بهذا أو يعاتبه على ما سواه، فلا حرج في ذلك, فأنت -مثلاً- اهتماماتك علمية لا حرج عليك ولا بأس, وآخر اهتماماته جهادية, وثالث اهتماماته دعوية, ونحن نعلم أنَّ في الصحابة رضي الله عنهم أبا ذر الغفاري، الذي لم يكن فوق الأرض ولا تحت السماء من ذي لهجة أصدق منه، ولا أزهد ولا أورع في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم, ولكنه لم يكن من أهل الولايات والإدارات, وفيهم خالد بن الوليد الذي كان سيفاً من سيوف الله تعالى، كما سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو حديث في الصحيح.

في معركة مؤتة، الذي كان قوياً شجاعاً مقداماً باسلاً, ما هُزِمَ في معركة قط، ولَكِنَّ خالداً بن الوليد انشغل بالحرب والجهاد, فلم يتفرغ لنشر العلم والفتيا في أصحاب محمد ومن بعدهم.

وفيهم ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه، الذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم فقال: {اللهم فَقِّهْهُ في الدين وعلمه التأويل} وكان له قلب عَقُول ولسان سئول, وكان من المفتين والعلماء في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، في ملأ منهم، كـ عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود ومعاذ بن جبل وغيرهم.

وفي أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من جمع الفضل والمجد من أطرافه كـ أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وأرضاه قال النبي صلى الله عليه وسلم يوماً لأصحابه: {من أصبح منكم صائماً؟ قال أبو بكر: أنا, قال: من تصدق على مسكين؟ قال أبو بكر: أنا, قال: من عاد مريضاً؟ قال أبو بكر: أنا, قال: من تبع جنازة؟ قال أبو بكر: أنا, قال: ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة} , وفيهم أمثال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه.

إذاً لا بد من الاعتدال مع مراعاة المواهب والتخصصات والملكات, المهم أن الإنسان يحرص على قدر من الاعتدال.

ومن الاعتدال: الاعتدال في بناء الشخصية, فيتوسط الإنسان بين الاندفاع وراء العاطفة الجياشة التي لا تنضبط, أو التوقف بحجة العقل والدراسة والنظر.

فإن الإنسان كُلُّ لا يتجزأ, وله عقل وعاطفة، ولولا وجود العاطفة لما استطاع الإنسان أن يتعامل مع الناس, ولا يأخذ ولا يعطي, ولا يتفهم أمورهم ولا يحبهم أو يحبونه, أو يتعامل معهم, فلا بد من الاعتدال في النظر بين العقل والعاطفة.

ومثله -أيضاً- الاعتدال في تقويم الرجال، فلا غلو ولا جفاء, وقد كان الصحابة -رضى الله عنهم- يربون الناس على ذلك, قال علي رضي الله عنه: [[إنه لعهد عهده إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تهلك فيّ فئتان: فئة غلت, وفئة جفت]] وهكذا حدث فعلاً، فإن ممن بعد علياً رضي الله عنه من غلو فيه, حتى ادعوا له لا أقول: الولاية والإمامة، فهو كان أميراً للمؤمنين رضي الله عنه, لكن ادعوا له والعياذ بالله الألوهية، وكان يقتلهم ويحرقهم بالنار, وهم يقولون له: أنت أنت! يعني يزعمون له الألوهية، وهو يقول لهم: لما رأيت الأمر أمراً منكراً أججت ناري ودعوت قنبرا فكان يحرقهم رضي الله عنه.

وهلكت فيه فئة أخرى هي: التي فرطت في حقه وقصرت، ونسبته إلى شيء مما لا يليق بقدره ومقامه رضي الله عنه إن المقياس كما أسلفت هو النص، وفى صحيح البخاري عن عمر رضي الله عنه قال: [[أقرأُنا أُبي ٌ وأقضانا علي]] , فحكم أمير المؤمنين بأن أبياً هو الأقرأ, وأن علياً هو الأقضى يعني: الأعلم بالقضاء, ثم قال عمر: [[وإنا لندع من قول أبي -يعني نترك بعض ما يرويه لنا أبي بن كعب رضي الله عنه- وذلك أن أبياً يقول: لا أدع شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قال الله عز وجل: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة:106]] ] فانظر إلى عمر، كيف اعترف لـ أبي ٍ بأنه هو الأقرأ من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم, ثم بين أننا مع ذلك نرد بعض قوله، لا بالتشهي، ولكن بالنص الشرعي, فقال: [[إن أبياً يقول كذا وقد قال تعالى ((مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا)) [البقرة:106] فقال: نرد بعض ما قاله أبي بالقرآن الكريم، وليس بمجرد التشهي]] .

إن الأمة التى تغلو في شخص, لا بد أن تقصر فيه فتعظمه, حتى لا تتصور أن يخطئ، فيقع في الخطأ، فتجحف في حقه, ولا ترى له قدراً أو مكاناً, وهناك أمة تبالغ في شأن شخص، إهداراً لكرامته, ويبالغ آخرون في رفع اعتباره وقيمته ومنزلته.

إذاً فالاعتدال والحق فضيلة بين رذيلتين, إن من الاعتدال: الاعتدال في معاملة المرءوسين, وهناك من يحمل من تحت يده ما لا يطيق, سواء كانوا أولاده، أو طلاباً أو مرءوسين أو مربين، أو الأمة كلها -أيضاً- بشعوبها وأممها, هناك من يُحَمِّلُهم مالا يطيقون, فينقطعون ويَدَعُون العمل, أو يدعوهم ذلك إلى الإعجاب والغرور بأنفسهم، وبما أنجزوا وعملوا فيستكبرون.

ثم قد يهمل آخرون بحجة أنهم ليس لديهم مواهب.

فقراء في مواهبهم, ليس لديهم إبداع؛ فيترتب على ذلك تحطيم لهم، وإثارة مشاعر السخرية والكراهية والبغضاء في نفوسهم.

وكل إنسان صغر أم كبر؛ هو مزود بملكات وقدرات إبداعية, ولكن الشأن فيمن يكتشف هذه الملكات ويعرفها؛ ثم يوظفها توظيفاً صحيحاً.

إن من الاعتدال: التوسط في ملاحظة النفوس وطبائعها, فهناك المربي الذي لديه حساسية شديدة, فهو يتردد في كل شيء خشية أن يجرح فلاناً, أو يُغْضِب فلاناً, وهناك على الطرف الآخر من لا يَأْبَهُ بالآخرين حتى كأنهم عنده بشر بلا مشاعر ولا أحاسيس, فقد يرأس الصغير -مثلاً- على الكبير، ويحتج بـ أسامة بن زيد , أو يعاتب بشدة ويحتج بموقف نبوي, أو يفضل أحداً على أحد بوضوح، ويحتج بـ أبي بكر وعمر وهكذا, وينسى أن الأمر يتفاوت والموقف يختلف.

ومن الاعتدال: الاعتدال في النصيحة والتوجيه، فليس من الحكمة حرمان الناس من النصيحة، والنقد البناء الهادف الذي -يكون بأسلوب الحكيم المناسب- بحجة الخوف من ذلك, وليس من الملائم تربية الناس على الصفاقة وقلة الأدب وغياب الخلق، بحجة تربيتهم على قول كلمة الحق, أو عدم المجاملة في دين الله تعالى.

ومن الاعتدال -أيضاً-: الاعتدال في تربية النفس وتربية الآخرين, فلا ينبغي للإنسان أن ينشغل بنفسه عن غيره, ولا ينشغل بغيره عن نفسه, بل الاعتدال الاعتدال، وكما قيل: يا أيها الرجل المعلم غيره هلا لنفسك كان ذا التعليم ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم فهناك يقبل إن وعظت ويقتدى بالقول منك وينفع التعليم لا تنهَ عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم

طور بواسطة نورين ميديا © 2015