ولا تنظر -يا أخي العزيز- إلى هذه النكبات التي تحل بالأمة، نظرة خاطئة, لا تعتقد أنها هي التي تدمر الأمة, بل أقول من منطلق نظرة قد تكون شخصية, لكن أعتقد أنها صائبة: إن هذه الأزمات والنكبات هي التي تخرج الرجال, والأمة التي تمر بحياة هادئة رتيبة ليس فيها أمر جديد ولا مثير, تجد هذه الأمة كأنها أمة ميتة, لكن إذا حصل أمر يهز الناس، ظهرت حقائق الرجال وبانت المعادن.
وخذ على سبيل الأمثلة الإمام أحمد -مثلاً- متى ظهر؟ وكيف ظهر؟ ولماذا كسب هذه الشهرة العظيمة والمكانة سواء في عصره أم إلى اليوم؟ إنما ظهر لما واجهت الأمة سيل العقلانيات والفلسفة، وعلم الكلام والمنطق، وتقديس العقل من دون الله عز وجل, فقام الإمام أحمد يدعو إلى العودة إلى الكتاب والسنة والاعتصام بهما, وتصحيح العقيدة، وإخراج هذه اللوثات التي دخلت إلى عقول المسلمين.
مثال آخر: ابن تيمية -رحمه الله- كيف ظهر ابن تيمية؟ ومتى ظهر؟ صحيح أن الأمة كانت في زمن ضعف وانهيار, لكن كان ظهور ابن تيمية -رحمه الله- في وقت وجد فيه التتر ووجد فيه الضعف, واكتسحت حملات التتر بلاد المسلمين, فظهر ابن تيمية , كيف ظهر ولماذا؟! ظهر في البداية من منطلق الحرقة التي في قلبه -كما سيتضح- كان يحترق من الداخل على واقع الأمة, ومشكلات الأمة ومصائب الأمة, ثم بدأ يحاول أن يحول هذا الاحتراق الداخلي إلى عمل خارجي, ما اكتفى بمجرد الحسرة والألم، بل أدرك أنه لابد أن يقوم بخطوات فعّالة, فصار يقوم ويجمع العلماء ويتحدث معهم، ويثبت السلاطين والحكام ويأمرهم ويقوي عزائمهم، ويحث الناس على القتال وهكذا, حتى استطاع ابن تيمية -رحمه الله- أن يعمل تعبئة كاملة للأمة ضد التتر, وانهزموا بإذن الله عز وجل.
العز بن عبد السلام -رحمه الله- كيف ظهر ومتى ظهر؟! ظهر في ظروف مشابهة كانت الأمة تعاني فيها من الحملات المختلفة للتتر وغيرهم أيضاً, وتعاني من التمزق والانقسام الداخلي, فكانت أحوج ما تكون إلى بطل، ليس بالضرورة بطل بالسيف, بل بطل باللسان وبالكلمة الجادة الشجاعة الصادقة, فكان العز بن عبد السلام يصعد أعواد المنابر، ويقول كلمة الحق صريحة مدوية, ويأتي هنا وهناك، ويتكلم لدى العام والخاص والكبير والصغير والعالي والنازل بالحق, ويجهر به ويجمع الناس عليه, حتى تحقق نصر الأمة.
إذاً نصر الأمة ما تحقق على يد السلطان المملوكي أو غيره, إنما تحقق في الواقع على يد العلماء الذين كانوا وراء هذا الانتصار الذي حققته الأمة.
وقل مثل ذلك في أسماء كثيرة، ظهرت بسبب الأزمات التي حلت بالأمة, وفي ذلك يقول أحد المؤرخين البريطانيين واسمه " أرنولد توينبي " له نظرية في تفسير التاريخ، يسميها: "التحدي والاستجابة" يقول: إن أي مصيبة تنزل بالأمة هي عبارة عن تحدٍ، هذا التحدي يورث عند الأمة استجابة، يثير في النفوس دوافع معينة، تجعلها تفكر كيف تقدم خدمة لهذا الدين, كيف تخرج من هذه الأزمة؟ فيظهر الرجال حينئذٍ.