فمن أهم نتائجه وأعظمها الغفلة، لأن المال ينسي ويلهي، وكذلك الصحة تلهي، والشرف يلهي، والجاه يلهي، فيغفل الإنسان عن مصالحه الدينية وعن مصالحه الدنيوية، ولذلك يعتذر الأغنياء والمترفون عن الأعمال الجليلة العظيمة بسبب الانشغال بمالهم وأهلهم، كما قال المخلفون من الأعراب: {شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا} [الفتح:11] انشغل بماله، وانشغل بأهله عن أعظم عمل يدعى إليه، وهو الجهاد في سبيل الله عز وجل، فليس عنده وقت للجهاد، وإن كان الجهاد عن نفسه، وعن عرضه وعن ماله، فإنه يقول: شغلتنا أموالنا وأهلونا، يشتغل بماله، حتى يأتي العدو، فيأخذ منه ماله كله، ويجهز عليه -أيضاً- وقد ينتهك عرضه، لكن الإنسان إذا غفل لا يكاد يكون فيه حيلة إلا ما شاء الله، ولذلك كان العلماء والعقلاء والمدركون يتعهدون الأمة خوفاً أن تنشغل بالترف والمال عن الآخرة وعن جلائل الأمور.
قصة أحد علماء الأندلس:- ويروى أن المنذر بن سعيد البلوطي رحمه الله، وهو أحد علماء الأندلس، رأى أن أحد أمرائها، وهو عبد الرحمن الناصر، كان مشغولاً ببناء مدينة فخمة هائلة عظيمة، لا تزال آثارها ورسومها ومعالمها باقية، وتعرف بالزهراء، ولها خبر عجيب معروف في التاريخ، فالمهم أنه كان يقوم بنفسه بالإشراف على بناء هذه المدينة حتى إنه تأخر يوماً من الأيام عن الجمعة بسبب انشغاله ببناء هذه المدينة، فلما جاء، وكان المنذر هو الخطيب فتكلم عليه، وتلا عليه آيات من القرآن الكريم، كما في قول الله عز وجل: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء:128-135] وتلا عليه قول الله عز وجل {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} [النساء:77] وتلا عليه قول الله تبارك وتعالى: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} [التوبة:109] وتلا عليه قول الله عز وجل: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:33-35] وقال له يا أمير المؤمنين: كيف أنزلت نفسك منازل الكافرين، وآثرت الدنيا على الدين؟! ومازال يتكلم عليه ويوبخه، والناس قد خشعوا وبكوا، والخليفة مطأطئ رأسه، يتصبب جبينه عرقاً حتى إذا انتهت الصلاة، خرج الخليفة من المسجد وهو متأثر يمسح دموعه، دموع الندم، وبعدما هدأ دخل عليه ولده الحكم، فقال له: يا ولدي أسمعت ما قال الخطيب المنذر بن سعيد؟ قال: كذا، وكذا، ووبخني أمام الناس وقد ثقل ذلك عليَّ، وإن كان كلامه حقاً، ولكني أريد أن أعاقبه، قال يا أبت، وبماذا تعاقبه، قال والله لا صليت وراءه أبداً، هذه هي العقوبة، ما فكَّر أنه يفصله عن المنبر مثلاً، ولا أن يودعه في السجن فضلاً عن أن يهم بقتله، كلا، ولكنه قال والله لا صليت وراءه أبداً بعد الآن، ولن أصليَّ معه، فسوف أذهب لأصلي خلف خطيب آخر، فقال له: يا أبت ألا أبعدته عن المسجد، فقال له: يا ولدي والله لا أظن أننا نجد مثل هذا الرجل، وإني استحيي من الله عز وجل، أن يكون بيني وبينه غير المنذر، أي يقول: استحي أن أصلي خلف واحد غيره، إلا أنني قد حلفت على ذلك، فأريد أن أبر قسمي، ولماذا فعل المنذر بن سعيد هذا الموقف؟! لأنها بادرة خطيرة أن ننهمك في الدنيا حتى ننشغل عن صلاتنا، وننشغل عن جهادنا في سبيل الله، ننشغل عن جلائل الأمور ومعاليها.
الانشغال بالدنيا: ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الذي رواه أبو داود وأحمد، وهو حديث صحيح، عن ابن عمر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إذا تبايعتم بالعينة ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد، سلط الله تعالى عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم} تبايعتم بالعينة؟ لماذا تبايعتم بالعينة بالربا! لأن كثرة الأموال تجعلتني أشعر أنه لابد أن يكون عندي أموال هائلة طائلة وصفقات تجارية لا يمكن أن أفرط فيها، فضعف عندنا الخوف من الربا ومحاذرته، لأننا مشغولون بجمع الأموال، وليس مهماً من أين تجمع الأموال؟! المهم أن يكون عندك رصيد ضخم، {إذا تبايعتم بالعينة، ورضيتم بالزرع} رضيتم بالزرع، وقد لا يكون الزرع أحياناً للمال فقط بل يصبح الناس يتباهون في المزارع والأموال الطائلة والأراضي الواسعة التي قاموا بزراعتها، لمجرد المتعة والمفاخرة بذلك، فضلاً عما يصيبهم من ورائها من الأموال والمغانم الدنيوية، {وتركتم الجهاد} فهذا الإنسان المشغول بصفقاته التجارية ومزارع وشهوات ليس من أهل الجهاد، إنما أمره مع الجهاد، كما قال الشاعر: يقولون جاهد يا جميل بغزوة وأي جهاد غيرهن أريد ما عنده وقت للجهاد! إلا الجهاد من أجل المرأة الحسناء ومن أجل المال ومن أجل الدرهم والدينار.
لهذا تلحظون أيها الأحبة أن الأمة الإسلامية تعيش اليوم فترة تلهية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، تعيش فترة تلهية لا يعلمها إلا الذين يقتربون من الشباب، وقد اقتربت من كثير من الشباب، خاصة الشباب الذين يعيشون بعيداً عن مجالس الذكر، وبعيداً عن المساجد، وبعيداً عن حلقات القرآن، فتسأل هؤلاء الشباب ما همومهم؟ ما هي الأشياء التي تشغل بالهم؟ ما أمانيهم؟! ما تفكيرهم؟! ما نظرتهم فتجد أنه مشغول في مجال ضيق يتراوح بين الكرة والرياضة ومتابعة المباريات ومتابعة دوري كرة الطائرة والقدم والبطولة للكبار والصغار والناشئين وغيرهم!! لا ينتقل عن ذلك إلا إلى متابعة الفنانين، والحصول على إنتاجهم الجديد، الحصول على إنتاجهم أولاً بأول، سواء عن طريق محلات الغناء، أم عن طريق زملائه وأصدقائه، ولا ينتقل عن ذلك إلا إلى الكرة، إلا إلى سيارة فارهة فخمة، تكون معه -كما أسلفت قبل قليل- أو يتمناها على أقل تقدير، وهكذا مع شغل الوقت ومع الشغل بالتدخين، ومشاهدة البرامج والأفلام التي لا خير فيها ولا قيمة لها.
فالمهم أن هذه حركة تلهية، واشغال كامل للأمة في أعز ما تملك، في شبابها لأنه إذا لهى الشاب، من الذي سوف يقوم على الثغور؟! ومن الذي سوف يصلح الأمور؟! ومن الذي سوف يحقق للأمة اقتصاداً متقدماً؟! ومن الذي سيحقق للأمة صناعة متقدمة؟! ومن الذي سوف يعود بالأمة إلى سواء السبيل؟! ومن الذي سوف يدفع عن الأمة شر الأعداء؟! والعمدة في ذلك كله بعد الله تعالى على شباب الأمة؛ فإذا لهى الشباب ضاع كل شيء، وقد يقول قائل أن الاشتغال بالرياضة يناسب تقوية الأجسام، خاصة ونحن في حال حرب مع عدونا الآن، فلا بأس من تكثير المباريات والدوريات وغيرها، حتى يتقوى الناس، ونقول: نعم لو كان الناس فعلاً يتقوون، لكن كم عدد الذين يلعبون في المباريات الرياضية؟ قل عشرة! عشرين، ثلاثين، أربعين! لكن البقية من الجماهير الهائلة محتشدة على مقاعد المدرجات لا هم لها غير الصفير والتصفيق والهتاف لفلان أو علان، وبعد ذلك تثور المعارك بينهم، ويخرجون وقد شحنت قلوبهم بالحب لفلان، والبغض لفلان، والمعارك، وإلى غير ذلك، وإيذاء الآخرين إلى ما سوى هذا.
والانشغال الكبير بمثل هذه الأمور التي لا تعود على الأمة بخير أبداً، هذا هو اللهو، فهذه الرفاهية في الكرة والفن أشغلت الشباب عن قضايا الأمة وألهتهم عنها، وإنني لأتعجب حين أقرأ قصة ذكرها السيوطي في كتاب حسن المحاضرة عن الشهيد نور الدين، يقول: إن الفرنجة لما حاصروا بلداً في مصر وحاصروا دمياط وآذوا المسلمين ومنعوا عنهم المؤن وقتلوا منهم من قتلوا، وهتكوا بعض الأعراض، فحزن لذلك نور الدين حزناً شديداً وبعث صلاح الدين قائده يدفع الإفرنج ويصدهم عن هذه المدينة، فأثناء ما كان صلاح الدين يذهب إلى الفرنج ليقاتلهم، كان نور الدين في حالة من الهم والحزن لا يعلمها إلا الله عز وجل، حتى إنه يوماً من الأيام كان عنده طلاب يقرءون الحديث، حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلسه فمن ضمن ما قرأوا حديثاً مسلسلاً بالضحك، ومعنى الحديث المسلسل أي يعني أن رسول الله تبسم، وقال: يا معاذ إني أحبك! -مثلاً-، وكذلك مثال: فلا تدعن دبر كل صلاة أن تقول كذا وكذا، فالراوي عن معاذ قال: هذا، والثاني، والثالث، والرابع، فهذا يسمى حديث مسلسل بقول: إني أحبك، وآخر مسلسل بالتبسم؛ لأن كل راوٍ تبسم، ثم روى الحديث، وكذلك أول الحديث، وكذلك أول حديث ليقال: هذا مسلسل بالأولية إلى آخره، هذا معنى المسلسل، فالمهم أن هذا الحديث كان مسلسلاً بالتبسم، فكل راوٍ يروي الحديث ويتبسم، فيقول: حدثنا فلان ويتبسم، فلما حدثوا نور الدين بهذا الحديث المسلسل بالتبسم، رغبوا إليه أن يبتسم حتى يكتمل التسلسل يقال مثلاً: حدثنا نور الدين قراءة عليه ثم تبسم، فما تبسم قالوا له: رحمك الل