ضياع الدنيا والآخرة

ثم الأثر والنتيجة النهائية الخامسة هي: ما يتلخص في ضياع الدنيا والآخرة على أولئك المترفين، هذا مصيرهم فوات الدنيا والآخرة، إذا نظر في يديه لم يجد فيهما شيئاً، الدنيا كلها ضاعت والآخرة كذلك لحقتها، أما ضياع الدنيا فيكون بأحد أمرين: إما أن يسلب الإنسان دنياه، وهو صحيح يرزق، فيأخذ الله عز وجل ما أعطاه من مال أو جاه أو سلطان أو منصب أو قوة أو صحة أو شباب، يأخذ الله عز وجل ذلك منه ويعوضه عنه بفقر أو بمرض أو بضعف أو بخوف أو بذل أو بسجن أو بغير ذلك، فيسلب الله الدنيا من هذا الإنسان ويبقى بلا دنيا، وهذا كثير، وإما أن يبقى الإنسان، ثم يسلبه الله عز وجل من دنياه، أي أن يسلط الله عز وجل عليه الموت، فيأخذه من بين أهله وولده وحشمه وأعوانه وإخوانه، ويبقى في قبره وحيداً فريداً، ليس معه إلا عمله الصالح، ولابد من أحد الأمرين إما أن تفارق الدنيا أو تفارقك الدنيا وكلاهما أمر -كما يقال- أمران أحلاهما مر، خاصة بالنسبة للمتعلق بالدنيا.

حكايات عن ضياع الدنيا: أما مسألة الموت، فيحكى أن ملكاً من الملوك بنى قصراً وشيده وزينه، وقال: لجنوده من عاب منه شيئاً فأصلحوه، وأعطوه درهمين، أي إنسان يقدم ملاحظة على هذا القصر، فأصلحوا الملاحظة، وأعطوا هذا الإنسان درهمين على أنه دلنا على عيب في القصر، فجاء رجل فقير ضعيف في آخر الناس، فقال: هذا القصر ليس فيه إلا عيبان فقط، قالوا: ما هما، قال: إن هذا القصر يتهدم ويموت صاحبه -فالقصر يتهدم وصاحبه يموت- والبقية تمام ما شاء الله تبارك الله، فأتوا للملك وأخبروه، فبكى الملك، وذكر حاله، وخرج من هذه الدنيا؛ حتى كان من الزهاد العباد المعروفين.

ومما يحكى في ذلك -أيضاً- أن رجلاً من الصالحين العباد مر على باب ملك من الملوك، مشيد مزين فنظر إليه، وقال: باب حديد، وموت عتيد، ونزع شديد، وسفر بعيد، هذا إذا كان المال حلالاً، فما بالك إذا كان المال حراماً، ما بالك إذا كان من حظوظ اليتامى والفقراء والمساكين، أو كان مال شبهة، أو كان ربا أو سرقة، أو غصب أو غش أو نهب؛ كيف ترى يكون العقاب؟ ويحكى أنه لما رجع محمد محمود بن الملك شاه، وكان قد حاصر بغداد وهو حاكم قوي جبار فحاصر بغداد، وآذى أهلها واعتدى عليهم، ثم رجع إلى همذان، فأقام بها فأصابه مرض السن ولم ينج من هذا المرض، وتوفي في ذي الحجة، وقبل وفاته بأيام: طلب أن يجمع عنده كل ما له من الخدم والحشم والأعوان والجيش وغيرهم، فجمع له الجنود بكامل هيئتهم وزينتهم وسلاحهم، وجمع له عبيده، وجمع له الجواري الحسان وجمع له الأولاد وجمع له الأموال جمعوا كلهم له في صعيد واحد فلما نظر إليهم صفق بيديه وبكى، وقال: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:28-29] لو كنت أستطيع أن أفتدي ملك الموت بعبيدي لأعطيتهم إياه، أو بمحظياتي لأعطيتها إياه، ولو كان يقبل مني ملكي لسلمته له، لكن لا حيلة في ذلك، ثم بكى، وأخرج كثيراً من هذه الأموال، ثم قدم إلى ما عمل.

هكذا الإنسان في لحظاته الأخيرة، يظهر على حقيقته أصغر بكثير مما يتصور الإنسان، يكبر في عين نفسه -أحياناً- فينتفخ ويعظم نفسه ويعظمه الناس، ويرى أنه، وأنه، وأنه، لكن في النهاية يجد أنه لا شيء، قال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:94] يقول الله عز وجل: {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ * لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ} [المؤمنون:64-65] إذاً: المترفون لهم موعد، وذلك الموعد إما أن يأتوه هم، أو يأتيهم هو لا محاله، وقد يسلب منهم الأمر؛ حتى وهم في حال الحياة، فيبتليهم الله عز وجل بزوال ذلك، كما يروى أن بنت النعمان -وهو ملك الحيرة- دخلت على معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه فقال لها: أخبريني عن حالكم كيف كنتم وكيف صرتم، فقالت: أطيل أم أقصر؟ فقال لها: بل اقصري -اختصري أوجزي الكلام- فجعلت تقول: لقد أمسينا وما حي من أحياء العرب إلا وهو يرجوا برنا، ويخاف منا، فأصبحنا وما من حي من أحياء العرب إلا ونحن نرجوه، ونخافه، لأنه ليس بأيديهم شيء، لا مال، ولا قوة، فأصبحوا يرجون الناس ويخافون من الناس أيضاً هذا حالهم باختصار ثم أنشدت تقول: وبينا نسوس الناس في كل بلدة إذا نحن فيهم سوقة نتنصف فأف لدنيا لا يدوم نعيمها تقلب تارات بنا وتصرف فبعد أن خرجت الدنيا من يدها، تأفف على الدنيا، وهذا يذكرنا بما كان يقوله المعتمد بن عباد لما سلب، وكان في سجنه، وفي قيده، ورأى بناته في الذل كان يقول: من بات بعدك في ملك يسر به فإنما بات بالآمال مغروراً لا تغتر بدنياك، بما لك، بكلام الناس، بالسمعة، بالجاه، بالمنزلة كل هذه الأشياء والله الذي لا إله غيره إن لم تغادرك هي، فإنك سوف تغادرها أنت، مالك إلا أحد حلين، فانظر -بارك الله فيك لنفسك، واحتفظ لنفسك، واعمل لنفسك عمل العقلاء العارفين.

حال كثير من أصحاب الأموال: ونحن نجد اليوم كثيراً من أصحاب الأموال الهائلة الطائلة الذين كانوا يعدون ممن يسمون بالملايرة -مليونير- يملك أموالاً هائلة، وبعد ذلك تصيبه نكبة، فتاتي على كل ماله -يجتاح ماله- وقد يموت في السجن لأنه مطالب بأموال هائلة لا يستطيع سدادها وكم نجد من كانوا ملء سمع الدنيا وبصرها، من الشاهات والرؤساء والسلاطين الذين طغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد، فأخذهم الله عز وجل أخذ عزيز مقتدر قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ} [هود:102-103] فهذا ضياع الدنيا، وثقوا أيها الإخوة إن الذي يشرب الماء البارد، ويأكل كسرة الخبز في ظل ظليل، ثقوا أنه أسعد في دنياه، وأحلف بالله الذي لا يحلف إلا به على ذلك، إنه أسعد بدنياه من كل هؤلاء الذين يخيل إليك أنهم سعداء بأموالهم، وجاههم ومنزلتهم، لكن يجد الإنسان في نفسه من العناء والشقاء والركض وراء الدنيا وحطامها؛ ما لا يجده ذلك الفقير المتواضع القانع بما أعطاه الله عز وجل قال تعالى: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23] .

ربنا ظلمنا أنفسنا، واعترفنا بذنوبنا، فاغفر لنا إنك أنت الغفور الرحيم، اللهم إنا ظلمنا أنفسنا ظلماً كثيراً، وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لنا مغفرة من عندك، وارحمنا إنك أنت الغفور الرحيم.

سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك، وصلى الله وسلم على عبده، ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015