Q يقول ذكرتم في مقدمة كلامكم كتاب العزلة للإمام الخطابي فما رأي فضيلتكم فى العزلة وفي الكتاب ذاته؟
صلى الله عليه وسلم العزلة: لها أحوال تختلف من شخص إلى آخر ومن وقت لآخر، والأصل الخلطة، وجماهير أهل العلم على أن الخلطة أفضل من العزلة، وهذا هو الصحيح، وهو منهج الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
وفي الصحيح عن ابن عمر أن النبي صلى الله علهم وسلم، قال: {الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم} [رواه الترمذي وأحمد وغيرهما] وهو حديث صحيح، فالأصل المخالطة، مخالطة الناس للداعية الموجه المعلم الناصح.
إنما تشرع العزلة في أحوال: تشرع في أزمنة الفتن، كأزمنة القتال بين المسلمين التي لا يميز الإنسان فيها المخطئ من المصيب، وهذا متواتر عن جمع من الصحابة أنهم تركوا القتال في تلك الفتن، واعتزلوا الناس منهم: سعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة وأسامة بن زيد وعبد الله بن عمر وجماعة كثيرة من الصحابة.
العزلة عند فساد الناس؛ لأنه قد يقول قائل: إن الناس فسدوا، ومسألة الفساد والصلاح مسألة نسبية، وعلى حسب اعتدال الشخص في مزاجه، وعلمه يستطيع أن يحكم على الناس، بعض الناس قد يقول: الآن -الحمد لله- الأمور بخير، والناس في خير، والإسلام في خير، ويبالغ في التفاؤل، وبعض الناس على العكس، فيبالغ في التشاؤم، وسب الواقع حتى كأن الواقع لا خير فيه.
وهذا -كما يقال: إذا وُضع أمام اثنين كأس فيه ماء إلى منتصفه، فإن المتشائم منهم يقول: هذا الكأس نصفه فارغ، أما المتفائل فيقول: هذا الكأس نصفه مملوء، وهذا المثال: ينطبق -فعلاً- على واقع الناس، فتجد بعض الناس من ينظر إلى الجانب الإيجابي فيبالغ فى مدح الواقع؛ وبعضهم ينظر في الجانب السلبي فيبالغ في ذم الواقع، وبعضهم يعتدل فينتظر نظرة متوازنة فيذكر ما في الواقع من إيجابيات وما فيه من سلبيات.
فعند فساد الزمان الضابط في ذلك: فإنه على حسب ما يظهر -والله أعلم- إذا فسد الناس فساداً يصبح الإنسان إذا دعا لا يستجاب له، أي: أن المجتمع كله غير قابل للإصلاح -والواقع اليوم يشهد بأن الدعاة يستجاب لهم- إذا دعوا الناس أجابوهم إلى دعوته؛ بل وسارعوا.
الحالة الثالثة: أن يكون الإنسان نفسه، عنده إحساس مرهف شديد، وشدة تأثر بالواقع؛ فإذا احتك بالناس واختلط بهم ورأى أقل منكر؛ فإنه يتأثر بذلك تأثراً لا يستطيع دفعه.
فإما أن يكون تأثره بحيث يضعف وقد يقارف هذه المنكرات، أو يكون بحيث ينفعل انفعالاً شديداً ويغير هذه المنكرات بطريقة خاطئة تضاعف من المنكر، وجرب من نفسه هذا الأمر، وأنه لا علاج له، ورأى أن العزلة أنفع له من الخلطة، ففي هذه الحالة العزلة أفضل، أما ماعدا ذلك، فالأصل الاختلاط بالناس.
أما ما يتعلق بكتاب العزلة: فالواقع أن الكتاب مفيد، وفيه كثير من القصص والأخبار والفوائد التي لا يستغني عنها طالب العلم، لكن أشير إلى ملاحظة ذكرها الخطابي نفسه في آخر الكتاب، حيث أشار في آخر الكتاب إلى لزوم حالة القصد، وقال: إنني سقت من الحكايات والأخبار -معنى قوله- ما خشيت أن أكون معه قد خرجت عما أردت عن حد القصد، وبدء يذكر أن المطلوب من الإنسان الاعتدال.
ولا تغلُ في شيء من الأمر واقتصد كلا طرفى قصد الأمور ذميم فهذه السلبية ينتبه لها في الكتاب، فقد بالغ في ذكر ذم الناس وعيوبهم وأخطائهم، وهذه هي طريق الأدباء إذا صنفوا في موضوع ذكروا كل ما يتعلق به من الآيات والأحاديث والقصص والأشعار والأخبار وغيرها.