التعصب للرأي

من آفات القراء: التعصب للرأي -سواء رأي الإنسان، أو رأي شيخه- وضيق الأفق عن سماع ما عداه، ولعل من أهم أسباب هذه الآفة: أن القارئ يتربى على رأي واحد منذ نعومه أظفاره وهو لا يسمع إلا رأياً واحداً، هذا الرأي يصحح له ويدلل عليه، ويضعف وينتقد ما سواه، فنشأ وشب على حب التقليد والتمسك بهذا الرأي، وأصبح يجزع حين يسمع نقداً لهذا الرأي، أو يسمع رأياً آخر مخالفاً له.

فلعل من المناسب أن يتربى طالب العلم والقارئ على ما يسمى بالفقه المقارن، خاصة إذا تقدم مستواه في العلم وأصبح أهلا لذلك، أن يسمع في المسألة أقوال عديدة اسمع قول الشافعي وإلى جواره قول مالك وأبي حنيفة والأوزاعي وسفيان الثوري والطبري وغيرهم من الفقهاء، واختر من هذه الأقوال ما يعضده الدليل على الأقل.

فإذا عرفت هذه الأقوال، ومن قال بها صار عندك شعور أن المسألة ليست مسألة إجماع، وأنه كما تعتقد أنت إنما قاله فلان هو الصواب! غيرك يعتقد أن ما قاله غيره هو الصواب! فيتربى الطالب على أنه يتعصب للحق وحده ولا يتعصب للرجال أياً كانوا وهؤلاء الرجال أنفسهم كانوا ينهون عن تقليدهم، ويعلنون أنهم إذا صح الحديث فهو مذهب أحدهم، الإمام أحمد مثلاً يقول: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان -يعني سفيان الثوري - والله عز وجل يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63] .

ففرق بين تعظيم العلماء وتقديرهم وإجلالهم والدعاء لهم، وبين تقليدهم في كل مسألة، فإن من المعلوم قطعاً أنه لا يمكن أن يقال: أن الحق كله محصور في قول إمام من الأئمة، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كل ما قاله عليه الصلاة والسلام فهو حق، أما سائر الأئمة فكل واحد منهم يأخذ من قوله ويترك- كما قال الإمام مالك -رحمه الله- فإذا تربى الإنسان على ذلك سَلِم من نزعة التعصب، سواء للإمام المتبوع أو للشيخ أو للنفس.

فالتعصب للنفس مشكلة؛ لأنه أحياناً ينشأ التعصب عن بحث المسألة، فربما يكون التعصب لهذا الرأي؛ لأن القارئ وطالب العلم بحث المسألة وجمع الأقوال والأدلة والأحاديث وصحح ونقح، فتوصل إلى أن الحق هو كذا وكذا، فصار يتعصب له.

ولكن الإنسان الذي تدرب على قراءة أقوال العلماء غالباً يسلم من ذلك -إن شاء الله- ولهذا كان السلف يوصون بالاطلاع على أقوال العلماء حتى أن بعضهم يقول: من لم يعرف اختلاف الفقهاء فليس بفقيه.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015