طائفة الارتباط بالدنيا وضعف الارتباط بالله

وإلى جوار الطائفة الأولى هناك طائفة أخرى ممن انصرف الواحد منهم إلى دنياه، وأغرق في همومه الشخصية، فكل ما يحلم به هذا الإنسان وما يعنيه، هو أن تنفق تجارته، أو أن ترتفع رتبته، أو أن يزيد مرتبه، أما أن يكون همه أن ينفع المسلمين بجاهٍ أو مالٍ أو غير ذلك فهذا بعيد، وكل ما قد يردده على أحسن الأحوال أن يقول: أنا ربُ الإبل وللبيت ربٌ يحميه، إذاً لم يعد من همّ هذا الإنسان قضية الإسلام والمسلمين، أو تقديم نفعٍ لهم، وإنما كل همّه لا يتعدى مصالحه الشخصية، وهمومه الذاتية.

وهؤلاء قد يكون الواحد منهم مُصلياً، وقد يكون صَائماً، وقد يسمى بالحاج فلان كما نرى في كثير من البلدان، وربما كان الدين عند أحدهم لا يعدو أن يكون حرزاً يعلقه على رقبته، أو يضعه في وسادته، أو حضور مأتمٍ، أو حضور مولدٍ، كما هو موجود في كثير من البلاد، ويعتقد أن الدين يتوقف ويقتصر عند هذا الحد، ولا شك أن هؤلاء يشكلون الأغلبية الساحقة من المسلمين، ممن هم مسلمون بالانتساب والانتماء، وربما كان أحدهم مصلياً، لكن لا تعتمل في قلوبهم هموم الإسلام، ولا تتحرق نفوسهم لقضايا المسلمين، بل أحدهم يكتفي بأقل قدر يضمن له اسم الإسلام، وربما قصّر في أقل هذا القدر أيضاً، فربما لم يصل الصلوات الخمس، أو لم يصلها في المسجد، ولو كان يقول إنه محب لله عز وجل.

حدثني أحد الإخوة الأحباب، وقد اتصل بي فكان من ضمن حديثه أن قال: إن علاقتي بالله عز وجل علاقة قوية جداً، فقلتُ له: الحمد لله رب العالمين وهذه بشارة، وخلال حديثه قال: إنه قد يصلي بعض الصلوات، وقد تفوته فروض أخرى، فقلت: تفوتك في المسجد أو تفوتك بالكلية؟ قال: لا قد أُفوِّتُ الوقت بالكلية فلا أصلي، فقلت: كيف تكون علاقتك بالله تعالى جيدة، ويفوتك وقت أو أوقات!! يا أخي خُذ مقاييس البشر الدنيوية، فعندما يكون هناك علاقة حب بين إنسان وإنسان آخر، فيطلب هذا المحبوب من حبيبه أن يكون في وقتٍ معين في مكان معين، فإنه يتحمل في سبيل طاعة محبوبه آلام الحر والبرد، وبعد المسافات والهجير، وغير ذلك، فكيف بمن يحب الله تعالى كيف لا يتحمل في سبيله؟! أليس الله تعالى يقول: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31] ؟ فهذه هي آية المحنة التي يمتحن الله تعالى ويبتلى بها من يدَّعون محبته؛ ليتحقق لهم هذا الحب من خلال الأعمال التي يقومون بها لتصديق هذا الحب.

ومما يذكر في الأقاصيص: أن رجلاً من أهل مصر في زمن غابر كان يجلس في المجالس، ويقف في المساجد، ويعلن ليل نهار، أنه يفنى في حب ملك مصر، يموت في حبه ويهلك في سبيله، وكانت هذه الدعوة قد ملأت فمه، فهو يرددها صباح ومساء، فترامى خبر هذا الإنسان إلى ملك مصر فدعاه، وقال له: أنت الذي تدعي أنك تحبني؟ قال له: نعم، قال: هل حبك حقيقة أم ادعاء؟ قال لا، هذا الحب حقيقة، قال: إذاً أنا سأخيرك بين أمرين إن كنت تحبني، إما أن تُغادر هذا البلد الذي أسكن فيه وهو مصر، وإما أن أقتلك، فاختر أحدهما؟ فقال: لا، بل أغادر هذا البلد.

قال: فاخرج من عندي فلما خرج أمر السلطان الحارس أن يقتله بسيفه، وهنا قام الحارس وثار، وقال: لماذا أقتل رجلاً في غير جرم؟ فقال: لا، بل أجرم في حقي، لأنه يدعي حبي وهو كاذب؟ قال كيف عرفت أنه كاذب؟ قال: إنه لو كان محباً صادقاً لي، لرضي أن يُقتل على أن يفارقني، ويغادر بلدي، ولاستحلى واستلذ الصعب من أجلي، ولو وافق على أن أقتله لنزلت عن عرشي ووضعته مكاني، وسلمت له مقاليد الأمور!! فهكذا مقاييس البشر، فما بالك بمن يدَّعي محبة الله تعالى، فلابد أن يحقق هذا الحب بالعمل الصالح الذي يقوم به.

إذاً هذه طائفة أخرى من المسلمين، ممن يلتزمون بقدر من الدين ويفرحون بالانتساب إليه، وقد يؤذيهم أن ينال أحدٌ دينهم بسوء؛ لكنهم لا يقدمون لدينهم عملاً يذكر.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015