الطريقة الثانية هي: طريقة الحوار، وهو أسلوب حديثنا اليوم، ولا أريد بحديثي عن الحوار أن أجحف بحق الجهاد في سبيل الله تعالى، فللجهاد أحاديثه، وللجهاد مجالاته، وقد سبق أن تحدثت في درس بعنوان: حي على الجهاد، وتكلمت فيه عن موضوع الجهاد في سبيل الله، وإنما حديثي اليوم عن وجه آخر، سواء كان الحوار مع كافر بهدف دعوته إلى الإسلام، أو كان مع مسلم.
والحوار أحياناً -أيها الأحبة- كما يقال: أقوى من الكلاشنكوف، وأقوى من القنابل، والصواريخ، والدبابات والمدفعيات؛ لأنه يعتمد على القناعات الداخلية، وعلى القناعات الذاتية، وربما أفلح الحوار فيما لم تفلح فيها الحروب الطاحنة! وأنا أذكر لكم حادثتين تاريخيتين قديمتين: وكلا الحادثتين تتعلق بطائفة الخوارج، الخوارج من المعروف في تاريخ الإسلام أنهم من أكثر الناس ضراوة في الحروب، وشجاعة وبسالة، حتى إن الناس كانوا يرهبون منهم، حتى النساء اللاتي التحقن بالخوارج كنَّ يبدين من ضروب البسالة والشجاعة في الحروب ما تندهش منه العقول! حتى إن الحجاج هرب من بعض النساء، فسخر منه الساخرون وقالوا له: هلاّ برزت إلى غزالة في الوغى بل كان قلبك في جناحي طائرِ وهرب منها بعض القواد فعيروه بذلك.
فالخوارج كانوا شجعاناً، بسلاء، أقوياء، على ما كانوا عليه من الباطل والضلال المبين! فلننظر كيف فعل فيهم الحوار.
كما ذكر الباقلاني والسكوني والشاطبي وغيرهم أن علي بن أبي طالب بعث ابن عباس إلى الخوارج، المسمين بالحرورية، فذهب إليهم ابن عباس رضي الله عنه وعليه حلية جميلة، فلما أقبل قالوا له: يا ابن عباس! ما الذي جاء بك؟ وما هذه الثياب عليك؟ فقال: أما الثياب التي علي فما تنقمون مني، فوالله لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه حلة ليس أحد أحسن منه، ثم تلا عليهم قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:32] .
فقالوا: وما الذي جاء بك يا ابن عباس؟ قال: جئتكم من عند أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وليس فيكم أنتم يا معشر الخوارج واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وجئتكم من عند ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني علي بن أبي طالب - وعليهم نزل القرآن، وهم أعلم بتأويله، جئت لأبلغكم عنهم وأبلغهم عنكم، فأنا رسول بينكم وبينهم، ووسيط بينكم وبينهم.
فقال بعضهم: لا تحاوروا ابن عباس ولا تخاصموه! فإن الله تعالى يقول عن قريش: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف:58]-خافوا من الهزيمة- فقالوا: اتركوا مجادلته لأنه جَدِل خَصِم، وقال بعضهم: لا بل نكلمه ولننظر ماذا يقول؟ قال ابن عباس رضي الله عنه: فكلمني منهم اثنان أو ثلاثة، فقال لهم: ماذا تنقمون على علي بن أبي طالب رضي الله عنه؟ قالوا: ننقم عليه ثلاثة أمور، قال: هاتوا؟ قالوا: الأول أن علي بن أبي طالب حكم الرجال في كتاب الله -يعني بعث حكماً منه وحكماً من معاوية رضي الله عنه، وقصة التحكيم معروفة- والله تعالى يقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:57] .
قال: هذه واحدة فما هي الثانية؟ قالوا: الثانية أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قاتل ولم يَسْبِ -قاتلهم وما سبى نسائهم- فلئن كانوا مسلمين فقتالهم حرام، ولئن كانوا كفاراً فلماذا لم يَسْبِ؟ قال: وهذه أخرى، فما هي الثالثة؟ قالوا: الثالثة أنه نزع نفسه من إمرة المؤمنين لما كتب الكتاب، فلم يكتب أمير المؤمنين وكتب علي بن أبي طالب! قال: أو قد فرغتم؟ قالوا: نعم.
قال: أما الأولى، وهي قولكم حكم الرجال في كتاب الله تعالى، فإن الله تعالى يقول في محكم التنزيل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة:95] فذكر الله تعالى حكم ذوي عدل فيما قتله الإنسان من الصيد، سألتكم بالله تعالى، ألتحكيم في دماء المسلمين وأموالهم أعظم أم التحكيم في ما قتله الإنسان من الصيد؟ قالوا: لا، بل التحكيم في دماء المسلمين وأموالهم.
قال: فإن الله تعالى يقول في كتابه: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} [النساء:35] ناشدتكم الله تعالى ألتحكيم في دماء المسلمين وأموالهم أهم أو التحكيم في بضع امرأة؟ قالوا: لا التحكيم في دماء المسلمين وأموالهم، قال: انتهت الأولى؟ قالوا: نعم، فالثانية.
قال: أما الثانية: فهي قولكم قاتل ولم يَسْبِ -لم يأخذ نساء من قاتلهم- فهل تسبون أمكم عائشة رضي الله عنها -لأنها كانت في الطرف الآخر- وتستحلون منها ما يستحل الرجال من النساء؟! إن قلتم ذلك كفرتم! وإن قلتم ليست بأمنا أيضاً كفرتم، لأنها أم المؤمنين!! فاستحوا من ذلك وخجلوا، قالوا: فالثالثة قال: أما قولكم خلع نفسه من إمرة المؤمنين، وإذا لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما عقد كتاب الصلح مع أبي سفيان وسهيل بن عمرو في صلح الحديبية قال: اكتب، هذا ما صالح عليه محمد رسول الله، قالوا: لو كنا نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك ولا منعناك، اكتب اسمك واسم أبيك، فمحى النبي صلى الله عليه وسلم الكتابة، وكتب هو أو علي هذه مسألة يطول الكلام فيها من محمد بن عبد الله، فرجع منهم عن مذهب الخوارج ألفان، وبقيت بقيتهم فقتلهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
فانظر كيف أثر الحوار الهادئ القوي العميق في مثل هذه الرءوس اليابسة الناشفة، حتى رجع منهم في مجلس واحد لم يستغرق ربع ساعة ألفان إلى مذهب أهل السنة والجماعة.
المثال الآخر: وهو أيضاً يتعلق بهذه الطائفة العنيدة -طائفة الخوارج- أنهم حيث بقيت منهم في الموصل بقية؛ فكتب إليهم عمر بن عبد العزيز رحمه الله الخليفة الأموي العادل ينكر عليهم خروجهم، ويقول لهم: أنتم قليل أذلة!! فردوا عليه وقالوا: أما قولك: إنا قليل وأذلة، فإن الله تعالى يقول لأصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال:26] فردوا عليه بذلك، فوجه إليهم عمر بن عبد العزيز فقيهاً اسمه عون بن عبد الله، وهو أخو عبيد الله بن عبد الله بن عتبة رضي الله عنهم ورحمهم أجمعين.
فقال لهم عون بن عبد الله: أنتم كنتم تطلبون حاكماً في مثل عدالة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلما جاءكم هذا الحاكم كنتم أنتم أول من نفر عنه وحاربه! قالوا: صدقت، ولكنه لم يتبرأ من الذين من قبله ولم يلعنهم -لم يلعن علي بن أبي طالب ولا معاوية ولا بني أمية- فنحن نحاربه لأنه لم يتبرأ من صنيع هؤلاء ولم يلعنهم! وهذا مذهب الخوارج.
قال لهم: أنتم كم مرة تلعنون هامان في اليوم؟ قالوا: ما لعناه قط، قال: أيسعكم أن تتركوا لعن وزير فرعون الطاغية، والمنفذ لأوامره، والذي بنى صرحه بأمره، ولا يسع هؤلاء أن يتركوا لعن أهل قبلتهم، إن كانوا أخطأوا في شيء أو عملوا بغير الحق؟ فسكتوا ورجع منهم طائفة كبيرة، فسر بذلك عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه، وقال لهذا الرجل: لماذا لم تحتج عليهم بعدم لعن فرعون، لماذا قلت لهم لم تلعنوا هامان، ولم تقل: لم تلعنوا فرعون؟ قال: لو قلت لهم: لماذا لا تلعنون فرعون، ربما قالوا: إننا نلعنه، أما هامان فقل من يلعنه في ألسنة الناس، فلذلك اخترته! فسكت هؤلاء، ثم خرجوا في ولاية يزيد بن عبد الملك فقاتلهم.
والمهم يقول السكوني في عيون المناظرات: فكانت حجة عمر أبلغ من قتالهم بالسيف.
وهكذا يتبين لك أن الحجة القوية، والحوار الهادئ الرزين من صاحب عقل وفهم وعلم في كثير من الأحيان يفعل ما لا تفعله السيوف، وما لا يفعله الكلاشينكوف.