تضخيم بعض القضايا بصورة غير مقبولة

هذه قضية أساسية قد تكون من أواخر القضايا، وهي: قضية تضخيم بعض القضايا بصورة غير مقبولة.

وأضرب لك أمثلة عابرة: 1- قضية التحليل السياسي: بعض الناس يشتغل بتحليل الأحداث السياسية، ليس فقط تحليل الأحداث السياسية! فتحليل الأحداث السياسية مطلب شرعي، ولا أحد يستطيع أن ينكر هذا أبداً؛ فهذا جزء من فهم المسلم لواقعه الذي يتحرك فيه، بل إنني أقول: إنه جزء من فهم المسلم لهذا الواقع الذي يريد أن يحكم عليه.

نحن نعرف أن من كلام علماء الأصول ما يسمونه بالأحكام الوضعية التي هي: الحكم على أفعال الناس بأنها صحيحة أو فاسدة، خطأ أو صواب، حق أو باطل، كيف تحكم أن هذا الشيء صحيح أو خطأ، حق أو باطل، وأنت لا تدري ما هو هذا الشيء؟ فلكي تكون مصيباً شرعاً يجب أن تكون عالماً بالواقعة التي تتحدث عنها، سواءً أكانت واقعة فردية أو جماعية، على مستوى فرد أو مستوى دولة أو مستوى أمة، قريب أم بعيد، هذا أمر بديهي لا يحتاج إلى كلام، وبالتالي معرفة الأحوال والأحداث السياسية والتقلبات، وربط بعضها ببعض بصورة صحيحة هذا لا غبار عليه.

لكن أحياناً يتطور هذا الأمر إلى نوع من المرض عند بعض الناس، فيصبح عنده لو عثرت بغلة في أقصى بلاد الدنيا، لابد أن يربط هذه بالقضية الكبرى، ويأتي لها بالأدلة والتحليلات وضروب الأشياء، حتى أصبح مرض، وأصبح -مثلاً- يتعاطى هذا الشيء أناس ليس لديهم بعد فكري عميق، وليس لديهم قدرة القضية صارت تخوف قلبي يجعل الإنسان يربط أي شيء بأي شيء، وعنده فكرة أن أي حدث لازم تحلله وتربطه بغيره دون أن تكون عنده الوسيلة أو الإمكانية لذلك؛ فيبالغ في قضية التحليل السياسي مبالغة مذمومة، ربما تعوقه أحياناً عن كثير من الأعمال الصالحة.

2- قضية المكر الصهيوني: أصبح الكثيرون يعتقدون أن اليهودية العالمية تهيمن على الكون، وهي التي توزع على الناس الهواء الذي يتنفسون، والماء الذي يشربون، والطعام الذي يقتاتون، وهي التي تطبع لهم الكتب، وهي التي تفعل لهم كل شيء.

صارت شبحاً! وهذا في الواقع من الأشياء التي نجح فيها اليهود، أنهم نجحوا في جعل أنفسهم شبحاً وخوفاً وخطراً في عقول الشعوب؛ فصارت الشعوب مهزومة معنوياً، وصار المسلم يحس بأن اليهود يلاحقونه في كل مكان، وأن اليهود دولة لا تقهر، وأنهم خطر جاثم لا فكاك له ولا مرد له من الله، ليس فقط في دولتهم إسرائيل بل في كل مكان، حتى ولو وجدت أي قضية، تذرع بأن يربط هذا الأمر بأنه من كيد اليهود ومن مكرهم.

يا أحبابي! صراحة أقولها: حتى المشاكل الحقيقية بين المسلمين، لا أعتقد أن أعداءنا بحاجة إلى أن يتدخلوا بيننا فيها، أعداؤنا قد كُفوا بنا، بعيوبنا، وبسلبياتنا، وأصبحنا نحن نخرب بيوتنا بأيدينا، ونحقق أهداف عدونا بسلبياتنا وبغبائنا وبجهلنا، وبعدم تصحيح نياتنا، وبعدم إخلاصنا لله عز وجل فيما نأخذ وما ندع، وباشتغالنا ببعض الأمور وإهمالنا أموراً أعظم منها، وبتناحرنا، وتفرقنا وتشتتنا، وباشتغال بعضنا ببعض، أصبحنا نخدم عدونا دون أن يحتاج هو إلى التدخل، ليس بحاجة أن يحرض بعضنا على بعض، ولا أن ينصر بعضنا على بعض، ولا أن يعين بعضنا على بعض، بلاؤنا فينا وكما يقول المثل الشامي الشعبي: (سوس الخل منه وفيه) فالداء منا وفينا، الداء جاثم في أعماق قلوبنا بل وفي عقولنا أيضاً.

3- قضية الحركات الباطنية: قضية الحركات الباطنية -أيضاً- وكثرة الكلام عنها، وأنها خطر، وهي لا شك خطر جاثم وخاصة في الظروف الحاضرة، فإننا نجد -مثلاً- دولة كإيران، أصبحت تستغل صمتنا -صمت القبور، بل ما هو أكثر من الصمت! خطوات العرب والمسلمين إلى الصلح عبر مؤامرة السلام أو ما يسمى مؤتمر السلام- أصبحت تستغله لتحقيق مزيد من المكاسب، فتستقطب المعارضين للسلام من كافة الطوائف والأحزاب والجهات والبلاد، وتعقد لهم المؤتمرات، وتذيع التوصيات، وتحرض، وتبدو كما لو كانت عدواً للسلام، وكأنها هي المعارض الوحيد الذي يقف في وجه أمريكا والغرب، وفي وجه إسرائيل وفي وجه النظام الدولي الجديد.

وهذا ينذر فعلاً بوجود خطر للباطنية، مع نشاطهم القوي في الدعوة له، لكن ينبغي مع ذلك -أيضاً- أن نضع خطر الباطنية في حجمه الطبيعي، ولا نبالغ في ذلك؛ لأن المبالغة في تقدير حجم العدو أحياناً تقعد الإنسان عن العمل، وأحياناً تنجح -من حيث لا تشعر- في إعطاء العدو شيئاً لا يستحقه، وتحقيق بعض المكاسب له مثل إنسان ظن أن العدو سيهجم على البلد فانسحب؛ فجاء العدو، فوجد الأرض حرة باردة لا يحتاج فيها إلى نزال ولا إلى قتال! 4- قضية الأسماء: من القضايا التي نكبرها أيضاً: قضية الأسماء.

وأنا أتعجب أننا نعتني بالأسماء عناية فاخرة! حتى أنك تجد اسم محل البنشر "بنشر الإخلاص" وتجد "ملحمة التقوى"، أو مغسلة ابن تيمية!! يولد لواحد منا ولد فتجده في الأسبوع الأول -بل قبل الولادة بأسبوع أو أسبوعين- معني جداً بمسألة البحث عن اسم، يدور على المكتبات ويشتري الكتب التي فيها الأسماء، ويستشير، ويعقد جلسات ومؤتمرات ومشاكل وأخذ ورد، وأحياناً تصير مشاكل بين الزوجة والزوج وتنتهي بالطلاق، ربما يحدث هذا!! بعض الناس كل همه قضية الاسم؛ فيبحث لولده عن اسم، وبالتالي هذا الاسم قد يكون جميلاً عنده لكن الناس يستسمجونه ويستهجنونه، وبالتالي الولد حين يكبر يكون مضطراً لتغيير هذا الاسم بعد الإعلان عنه في الجريدة.

فهذه العناية الشديدة بالاسم، هل يقابلها عناية بتربية الولد؟ عناية بإعداده وتنشئته؟ هل نعده كما لو كنا نعده لخوض معركة الإسلام الكبرى، المعركة الفاصلة مع بني إسرائيل، أو مع النصارى أو مع غيرهم؟ هل يقابله اهتمام في المدرسة التي سوف يُدَّرس فيها الولد؟ واهتمام بالبيئة التي سوف يتربى فيها؟ واهتمام بالمواد الإعلامية التي يتلقاها؟ أم أنك بعد ما اخترت له هذا الاسم الجميل أصبح كل همك منحصراً -أيضاً- في الشكليات، وفي الثياب وفي اللعب الجميلة، لكنك بعد ذلك تدعه لأفلام الكرتون، أو بعض الأشياء الإعلامية الفاسدة الكاسدة التي تقوم بإكمال مهمة التربية وتولي الجانب الخطير، جانب العقل من هذا الطفل، وجانب النفس والروح! وأحياناً إلى مدرسة، قد تكون مدرسة نصرانية، وفي بعض البلاد تكون مدارس علمانية، وفي بلاد أخرى مدارس منحرفة، وفي بعض الأماكن مدارس تربي الأطفال والصغار والكبار على الموسيقى، وعلى الغناء، والرقص والتبرج والسفور والاختلاط وعلى المعاني المنحرفة.

تأتي -أيضاً- قضية الأسماء: تجد عندنا -كما أسلفت- عناية بأسماء المدن والشوارع والجامعات وبأسماء المدارس، هذا نحن لا نعترض عليه إذا كان الاسم حسناً ومناسباً ومعبراً، ويحكي ارتباط هذه الأمة، بتاريخها، وانتمائها.

لكن المصيبة إذا تحولت القضية إلى اهتمام مجرد بالشكل، ولكن إذا أتيت إلى منهج المدرسة أو الجامعة؛ لا تجد أي اهتمام، الأستاذ المربي الموجه لا تجد عنده اهتمام، الطالب لا تجد عنده اهتمام، كذلك السكن لا تجد الاهتمام الكافي بالنواحي الأخلاقية والتربوية والعلمية له، هنا تقع المشكلة.

نحن لا نعترض على أن يكون الاهتمام بهذا وذاك، تهتم بالاسم الجميل، وتهتم أيضاً بالمضمون الجميل، وبالمنهج الحسن، وبالتربية الجيدة، وبالأستاذ الناجح، وبإعداد الإنسان والطالب إعداداً صحيحاً يضمن له النجاح في دنياه وفي آخرته.

أما أن تحصر همك في القضية الشكلية، فهذا يعبر عن خواء ويعبر عن فراغ.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015