والصنف الثاني: هم من حرموا من هداية الوحي من بعض الوجوه دون بعض، بمعنى أنهم مسلمون في الجملة، لكن عندهم مانع حال بينهم وبين الانتفاع بنصوص الوحي كما ينبغي، ولو في جانب من الجوانب، وهؤلاء أصناف من الناس.
الصنف الأول: هم أهل الأهواء والبدع الذين استقرت في نفوسهم البدعة والهوى، وصاروا يقرءون في القرآن والحديث ليبحثوا عما يؤيد بدعتهم، ويلتمسوا منها ما يناسبهم في ذلك، وهؤلاء فيهم شبه كبير من الصنف الأول -الكفار- في عدم استفادتهم من الوحي.
ولذلك قرن الله تعالى بين هذين الصنفين في كتابه، ولو التفتنا إلى الآية لوجدنا هذا ظاهراً، فبعد أن ذكر الله عز وجل في الآية السابقة الكفار من أصحاب النار الذين ذرأهم لجهنم من الجن والإنس، والذين لم يستفيدوا من عقولهم، لا بالآيات الشرعية ولا بالآيات الكونية، وقال: {أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179] عقب بقوله: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف:180] فجمع بين الذين يلحدون في أسماء الله عز وجل وبين الكافرين، سواء كان هذا الإلحاد في أسماء الله كأن يسمى غير الله بها، أو بصرفها عن معانيها الظاهرة إلى معانٍ غير صحيحة، أو بتسمية الله عز وجل بأسماء ليست صحيحة لم يسم بها نفسه ولا سماه بها رسوله، أو غير ذلك من ألوان الإلحاد، فهذا نوع من الهوى.
ولذلك كان من أصحاب الأهواء المعتزلة والجهمية وغيرهم من الذين أولوا أسماء الله وصفاته عن معانيها الحقيقية إلى معانٍ أخرى مجازية، ومنهم من قال: إن هذه الأسماء هي أعلام لا تدل على صفة، وكوننا سمينا الله بالرحمن الرحيم، لا يعني وصفه بالرحمة عندهم، وهؤلاء هم المعتزلة، وإنما هي مجرد علم، كما يسمى الإنسان محمداً أو عبد الله، فألحدوا في الاسم ونفوا عنه الصفة التي يأخذها ويدل عليها، فهؤلاء -أيضاً- حرموا من هداية الوحي من هذا الباب، واستسلموا لفكرهم وأهوائهم، أو استسلموا للفلسفات اليونانية التي أفسدت على المسلمين كثيراً من علومهم.
وقال سبحانه في آية أخرى عنهم: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7] فبين أنهم يتبعون المتشابه، في حين أن أهل العلم والإيمان يحملون المتشابه على المحكم ويردونه إليه، فيسلمون من اتباع المتشابه.
ولذلك عقب بقوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) [آل عمران:7] وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: {أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية، وهي قوله تعالى: ((هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ)) [آل عمران:7] ثم قال: فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمى الله فأحذروهم} .
ولذلك تجد أن أهل البدع كلهم قد يستدلون بالقرآن، أو بالحديث على بدعتهم وهم يستدلون بعمومات ونصوص متشابهة كان عليهم أن يردوها إلى النصوص الظاهرة البينة.
وقد رأيت بعض الضالين المنحرفين ممن يكفرون سواد المسلمين، ويقولون: إن أتباع المذاهب الأربعة كفار، فلما نوقشوا في هذا القول وما دليلهم، قالوا: إن الله يقول: {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم:31-32] فوصف الذي فرقوا دينهم وكانوا شيعاً بأنهم من المشركين، وأهل المذاهب الأربعة هم من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً، فهم مشركون.
ولذلك يتجنبون الصلاة خلفهم، فلا يصلون معهم جمعة ولا جماعة، بل ولا يعتمدون على المسلمين في رؤية هلال رمضان، ولا في رؤية هلال ذي الحجة، ولذلك قد يصومون قبل المسلمين، وقد يقفون بعرفة قبل العيد أو بعده، وكل هذه الضلالات -وأعظم منها وقوعهم في تكفير سواد المسلمين- بسبب شبهة عرضت لهم أو نص عام لو ردوه إلى النصوص الخاصة الصريحة لسلموا من هذا الانحراف.
ومع الأسف إن الإنسان إذا تشبع قلبه ببدعة يصعب عليه أن يخرج منها، خاصة إذا كانت هذه البدعة بدعوى أنه يرجع إلى الكتاب والسنة، كما سولت لهم أنفسهم، فهؤلاء ممن حرموا من هداية القرآن والسنة في كثير من جوانب حياتهم، وهم أهل الأهواء.
الصنف الثاني الذين حرموا من هداية القرآن والسنة في كثير من جوانب حياتهم: هم الذين انصرفوا عن تعلم الدين واشتغلوا بالدنيا عن الآخرة، والاشتغال بالدنيا عن الآخرة من سيما الكفار، قال الله عز وجل في وصف الكافرين: {وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ * الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ} [إبراهيم:2-3] وقال سبحانه: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:16-17] وقال سبحانه: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15-16] والآيات في هذا المعنى كثيرة جداً.
فالذي يؤثر الدنيا ويتعب من أجلها، ويغفل عن تعلم علم الشرع الذي لا بد له منه، قد حرم من كثير من هداية الوحي ونصوصه، وهو عبد لهذا الشيء الذي شغل نفسه في طلبه؛ وكما في صحيح البخاري عن أبي هريرة يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش} فيدعو الرسول عليه الصلاة والسلام عليه، وهذا الحديث عظيم جداً ولابد أن نقف عنده، لكن المقصود والشاهد منه الآن هو قوله: {عبد الدرهم، عبد الدينار} فليست العبودية فقط أن يجعل الإنسان له صنم ويصلي إليه، أو أن يطوف بقبر.
ومن أنواع العبودية أن يتجه القلب ويتأله لغير الله، فمثلاً: الذي يؤثر الدنيا على الآخرة، ويقدمها عليها عبد للدنيا، فكيف يؤثر الدنيا على الآخرة؟! هو أن يشتغل بالدنيا عن الصلاة، أو يشتغل بالدنيا عن الصيام، أو يشتغل بالدنيا عن فعل الواجبات، أو تدعوه الدنيا إلى فعل الحرام.
كأكل الربا، والسرقة، والنهب، وما أشبه ذلك من الأشياء، فإذا قدم الدنيا على الدين في مثل هذه الأشياء، فقد وقع في شيء من العبودية للدنيا قل أو كثر، ولذلك سماه النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى: {عبد الدرهم، عبد الدينار} وكأنه جعل هذا الدينار أو الدرهم أمامه وصار يتعبد له، لأن العبودية في الأصل هي خضوع القلب وذله وانقياده، فمن انشغل قلبه بشيء فهو عبد له.
الصنف الثالث من الذين حرموا من الانتفاع بالوحي هم: أهل التقليد، الذين يقدمون آراء الرجال وأقوالهم على كلام الباري جل وعلا وعلى كلام المصطفى المختار صلى الله عليه وسلم، وهم بذلك يخالفون قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم، وقول الأئمة الذين قلدوهم.
فأما مخالفتهم لقول الله فإن الله تبارك وتعالى أمر بطاعته، وطاعة رسوله: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [المائدة:92] {اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف:3] ونعى سبحانه على أهل الكتاب طاعتهم للأحبار والرهبان في تحليل الحرام، وتحريم الحلال، فقال: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31] وتفسيرها الذي لا إشكال فيه، كما يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله؛ هو ما فسرها به النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الترمذي وصححه وأحمد وغيرهما.
{عن عدي بن حاتم أنه قال: يا رسول الله! ما كنا نعبدهم، قال: أليسوا يحرمون عليكم الحلال فتطيعونهم؟ قال: بلى.
قال: ويحلون لكم الحرام فتطيعونهم؟ قال: بلى.
قال: فتلك عبادتهم} .
وقد عقد الإمام محمد بن عبد الوهاب لهذه الآية باباً نفيساً في كتابه: كتاب التوحيد عنوانه: باب من أطاع العلماء والأمراء في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله فقد اتخذهم أرباباً من دون الله، فارجع إلى هذا الباب، وارجع إلى شرحه في كتاب فتح المجيد فإن فيه كلاماً مفيداً.
وأما قول الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه أيضاً أمر باتباع الكتاب والسنة، وقال: {ألا إني أوتيت القرآن، ومثله معه} وأنكر على من رد سنته، وقال: {ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: ما وجدنا في كتاب الله أخذناه الخ} .
فأمر بطاعة الله، وجعل طاعته صلى الله عليه وسلم من طاعة الله.
وكذلك العلماء الذين يقلدونهم كانوا مجمعين على أنه لا يجوز لأحد عرف السنة أن يخالفها لقول أي عالم من العلماء، يقول الإمام الشافعي رحمة الله: أجمع العلماء على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد، وقال الإمام ابن عبد البر رحمه الله: أجمعوا على أن المقلد ليس من