رابعاً: أن قرب عهدهم من وقت التشريع أعفاهم من سلسلة الإسناد الطويلة، فكانوا يأخذون مباشرة، فيسمعون من الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه، أما من جاء بعدهم، وخاصة من المتأخرين، فقد جاءت الأسانيد، ولذلك تجد أن العلماء يختلفون في تصحيح الحديث أحياناً أو تضعيفه، والتبس على كثير من الناس الحق بالباطل، بل وصل الحال ببعض الجهال إلى ألا يقبل كثيراً من الأشياء الواردة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: أن هناك أحاديث ضعيفة قد يكون هذا منها، ولا يأخذ بكلام أهل العلم الذين صححوا هذا الحديث.
ولذلك يقول عبد الله بن عباس كما في مقدمة صحيح مسلم: [[كنا إذا سمعنا أحداً يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدرته أبصارنا]] أي: من شدة تلهفهم إلى معرفة السنة، سمعوا أحداً يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدرته أبصارهم.
ولذلك كان عبد الله بن عباس رضي الله عنه مع أنه من صغار الصحابة، يروي كثيراً من الأحاديث، وهي ما يعرف بالمراسيل، والمراسيل التي رواها ابن عباس عن غيره من الصحابة: عن أبي هريرة، وعن الفضل بن العباس، وعن ابن عمر، وعن غيرهم من الصحابة كثيرة، حتى قيل: إنه لم يروِ عن النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة، إلا نحو أربعين حديثاً، وما عدا ذلك فهو من المراسيل.
فيقول ابن عباس رضي الله عنه: [[فلما ركب الناس الصعب والذلول، لم نأخذ عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا ما نعرف]] .
فهذه أربع خصائص لجيل الصحابة رضي الله عنهم.
فالخاصية الأولى هي: معايشتهم لوقت التشريع، ومعرفتهم بأسباب النزول.
الخاصية الثانية هي: فصاحتهم.
الخاصية الثالثة هي: سلامتهم من البدع والأهواء.
الخاصية الرابعة هي: قرب عهدهم بالوحي وعدم حاجتهم إلى سلسلة الإسناد التي قد يلتبس على بعض الناس الصحيح بغيره.
ولذلك نقول: إن فهم الصحابة رضي الله عنهم للقرآن والسنة هو الفهم الصحيح الذي يجب أن يكون مقياساً لمن جاء بعدهم من الناس، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في وصف الفرقة الناجية: {من كان على ما أنا عليه وأصحابي} .