أما ما يتعلق بأسلوب معاملته للعصاة والفساق أو للكفار، فهو عجب من العجاب، فقد علمنا صلى الله عليه وسلم ألا يعجب العامل منا بعمله إن كان عمل خيراً، بل يتواضع، ولعل بعض من قصروا فيما وجب عليهم، يكون عندهم من الخوف والإخبات والانكسار ما يقربهم من الله أكثر مما يقرب العامل عمله، وأكثر مما تقرب العابد عبادته، ولذلك حكى لنا صلى الله عليه وسلم خبر رجلين من بني إسرائيل أحدهما عابد، والآخر مسرف على نفسه، {فقال العابد: والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله تبارك وتعالى: من ذا الذي يتألى علي ويقسم على ألا أغفر لفلان، فإني قد غفرت لفلان وأحبطت عملك} رواه مسلم عن جندب رضي الله عنه.
هذا الأسلوب الذي ربى الرسول صلى الله عليه وسلم عليه أصحابه بصورة نظرية دربهم عليه عملياً، فها نحن نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يؤتى برجل يشرب الخمر فيجلده، ثم يؤتى به أخرى فيجلده، ثم يؤتى به مرة ثالثة فيجلده، فيقول رجل من الصحابة: أخزاه الله! ما أكثر ما يؤتى به- أي ما أكثر ما يؤتى بهذا الرجل شارباً للخمر -فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: لا تلعنوه فوالله ما علمت أنه يحب الله ورسوله} أي أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: فيما أعلم أن هذا الرجل يحب الله ورسوله، وهذا لا يعني التقليل من خطر الخمر، بل من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة، وفي الحديث الآخر: {فإن عاد في الرابعة فاقتلوه} لكن في أسلوب معاملة العاصي بعد أن يقع في المعصية، يجب أن نحاول أن نساعده على أن يخرج مما هو فيه، نساعده على أن ننتشله من الوحل ومن الوهدة التي وقع فيها، ولا نعين الشيطان عليه، ولذلك في اللفظ الآخر الذي عند البخاري، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان} وجيء صلى الله عليه وسلم برجل قد زنى، ولكنه قد تاب توبة نصوحاً، وأحرق الندم قلبه، فكان يجلس أمام الرسول صلى الله عليه وسلم، فيقول: يا رسول الله زنيت فطهرني، فينصرف عنه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الجهة الأخرى، فيقوم يجلس قبالته، فيقول: يا رسول الله زنيت فطهرني، ويأتي ثالثة، ورابعة، فلما ثبت أنه وقع في الزنا، يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم به فيرجم، فلما رجم سبه بعض الصحابة، فاستنكر الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك، وقال لأصحابه بعد ثلاثة أيام من رجمه: {استغفروا لـ ماعز بن مالك فقال الصحابة رضي الله عنهم: غفر الله لـ ماعز بن مالك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم} وقد تكررت نفس العملية مع الغامدية، فلما ردها الرسول صلى الله عليه وسلم قالت: لعلك تريد أن كما رددت ماعزاً، فوالله إني لحبلى من الزنا.
انظروا إلى حرارة الإيمان في القلب، نعم وقعت في فاحشة، ولكن الله عز وجل وصف المؤمنين بقوله: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران:135-136] لقد تابت إلى حد أنها جادت بنفسها، كما قال صلى الله عليه وسلم، ولقد جاءت وهي تعلم أنها سترجم، فتقول للرسول صلى الله عليه وسلم: الطريق مغلق أمام الالتفات كما التفت عن ماعز، لأنها حبلى من الزنا، ثم يرسلها الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقول: إذا وضعت فأتيني، فلما وضعت جاءت بالغلام، كان بإمكانها ألا تأتي، ولكنها جاءت لأنها قد تابت توبة نصوحاً، فلم ترض إلا أن تُطَهَّر في الدنيا، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن تذهب حتى تفطمه، فبعد فترة جاءت بالغلام وفي يده كسرة خبز، وكأنها تريد أن تعطي دليلاً عملياً على أنها فطمت الغلام، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بها فرجمت، فرشق شيء من دمها على أحد الصحابة فسبها، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: {والله لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم} أو: {لو تابها صاحب مكس لغفر له} هكذا كان نبينا صلى الله عليه وسلم يتعامل مع من وقعوا في المعاصي، بل هكذا يتعامل معهم حتى بعد أن أقيمت عليهم الحدود، وغادروا الدنيا، كان يصون أعراضهم صلى الله عليه وسلم من أن يسبهم أحد أو يتناول منهم أحد؛ لأنهم مؤمنين ينغمسون في أنهار الجنة، فلا يحق لمؤمن أن يتعرض لهم بسوء، بل يجب عليه أن يستغفر لهم كما أمر صلى الله عليه وسلم.