الجهل في الدين

أما السبب الأول: فهو الجهل بالدين، إذ لا يكفي للإنسان حتى يكون مستقيماً على منهج الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون متحمساً للدين راغباً فيه مقبلاً عليه، ولله در الإمام الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فقد قيل له: [[يا أبا عبد الرحمن، هاهنا قوم في المسجد يفعلون فعلاً غريباً، قد جمعوا الحصى، وحولهم شيخ لهم يقول: سبحوا ثلاثاً وثلاثين فيعدون ثلاثاً وثلاثين حصاة يسبحون كبروا ثلاثاً وثلاثين، هللوا ثلاثاً وثلاثين وهكذا، فقال قائل: هؤلاء على خير وعلى حق؛ لأنهم يسبحون الله، ويحمدون الله، ويكبرون الله، ويهللون، ففعلهم من جهة متلبس بالخير والعبادة، ولكن -من جهة أخرى- هذا العمل رفضته نفوس الصحابة الذين لم يألفوا البدعة، فجاء آتيتهم إلى ابن مسعود وهو عالم ووعاء من أوعية العلم والسنة، وقال: يا أبا عبد الرحمن والله لقد رأيت في المسجد شيئاً وما رأيت إلا الخير فأخبره بما رأى، فجاء إليهم عبد الله بن مسعود، وقال لهم: والله إنكم إما قد سبقتم أصحاب محمد علماً، أو أنكم على ضلالة أنتم أحد أمرين: إما أن عندكم علماً خفي على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا بطبيعة الحال المقصود به التعجيز؛ لأنه لا أحد يستطيع أن يقول: إنه أعلم من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الذين تلقوا العلم غضاً طرياً من فيه إلى آذانهم صلى الله عليه وسلم، ورضي عنهم وأرضاهم -لقد فقتم أصحاب محمد علماً أو أنكم على ضلالة، فقالوا: والله يا أبا عبد الرحمن ما قصدنا إلا الخير- تعذروا أن دافعهم إلى هذا العمل هو حب الخير، فهل شفع لهم هذا الأمر عند ابن مسعود؟ لا، قال لهم هذا الإمام كلمة يجب أن نحفظها وأن نرددها: وكم من مريدٍ للخير لم يبلغه]] .

إن الذي يريد الخير ويريد الطريق المستقيم، يجب أن يعلم أنه ليس هناك طريق مستقيم إلا واحدٌ فقط، هو الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وأن جميع الطرق والأبواب غيره هي أبواب تأخذ لسالكها ذات اليمين، وذات الشمال عن الطريق المستقيم، قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153] .

إذاً السبب الأول هو الجهل بالدين، إذ أن العالم يعلم أنَّ النص الوارد عن الله، أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم هو المقياس في الحلال والحرام، ولذلك لما أمرنا الله عز وجل بالجهاد، قال لنا: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] هذه قاعدة مهمة: كل أمر جاء به الدين فهو يسر وسهولة، لا حرج فيه مهما ظن الظانون أنه حرج، وعكس ذلك: كل أمر لم يأت به الدين ولم يأت به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فهو أمر عفو ومباح في الأصل، مهما ظن الظانون أن الدين غيره، وأن في إتيانه حرجاً.

إذاً الحرج في مخالفة النص، واليسر في اتباع النص، فما جاء به الله ورسوله، فهو اليسر الذي لا يسر في غيره، وما نهى الله عنه، فإتيانه هو الحرج الذي فيه الحرج كل الحرج، وهذه قاعدة مهمة، تشتط أهواؤنا أو عواطفنا ومألوفاتنا، فما ألفنا فهو من الدين، وما جاء غريباً علينا استنكرناه، ثم نفيناه عن الدين، والمثل القديم يقول: "الناس أعداء ما جهلوا" فليس كل ما جهله الناس حراماً، ولا كل ما عرفه الناس وأقروه مباحاً، بل الحرام ما حرمه الله أو رسوله بالنص الصحيح، والحلال ما أباحه الله ورسوله بالنص الصحيح الصريح، أو سكت عنه، وما سكت عنه فهو عفو، وهناك قواعد كثيرة تضبط هذا الأمر، ليس هذا مجال سردها.

أيها الإخوة: إن المسلم الذي جرد الاتباع لمحمد صلى الله عليه وسلم لا يتردد في الانقياد والتسليم لكل أمر ورد من الله ورسوله، ولكن لا يحرم من تلقاء نفسه، ولا يعمل شيئاً على سبيل العبادة لله سبحانه وتعالى إلا بتوقيف، وليعلم الجميع أن محرم الحلال كمحلل الحرام سواءً بسواء، فإنك لو عبدت الله بعبادة لم يشرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تخرج من هذه العبادة سالماً، فضلاً عن أن تتقرب إلى الله بها، بل إن هذه العبادة وبالٌ عليك، أنت تتعب فيها، وتجهد فيها، وتضني نفسك، وتسهر ليلك، أو تتعب نهارك في عبادة لم يشرعها الله، ومع هذا كله تأثم بهذا العمل، كما أن الإنسان الذي يقول: إن الخبز أو التمر حرام، هو بالضبط مثل الإنسان الذي يقول: إن الخمر حلال، فكلاهما سواء.

لا يكن هوانا أيها الإخوة مع من يميل إلى التحريم، فإذا كان الإنسان يقول: هذا الشيء حرام، ملنا معه لأنه يعظم حرمات الله، ويمنع الناس من أمور ما جاء بها الدين، كلا! يجب أن نعلم أنه من قال عن شيء مباح: إنه حرام، فهو كمن قال عن شيء محرم: إنه حلال، وهما بمنزلة واحدة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015