الصورة الثالثة من صور التشدد في الدين: التشدد في المعاملة، وكأني بكم تسألون: كيف يكون التشدد في المعاملات؟ يتشددون في معاملة الناس فيحرمون ما أحل الله، ثم يريدون من الناس أن يوافقوهم على تحريم هذا الحلال، ومن لم يوافقهم هجروه وشنعوا عليه، وأنكروا عليه، واعتبروه منحرفاً.
لقد سمعت من يقول: إن النظر إلى وجه العاصي حرام، انظروا -أيها الإخوة- إلى من شددوا في الدين بأمر لم يأذن به الله، هل قال لنا ربنا ذلك؟ أم قال لنا الصادق المصدوق ذلك؟ {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} [الأنعام:148] إنه والله مما يدمي القلب، ويجرح الفؤاد، ويحزن النفس أن يوجد من الغيورين على الدين، الذين دفعتهم الغيرة إلى أن يتعدوا حدود الله، ثم لا يسمعون لقائل مقالاً، ولا يستطيعون أن يسمعوا الحق أو أن يقبلوه، لما وقر في نفوسهم وتشبعت به قلوبهم من أن ما هم عليه هو الحق، وصدق الله العظيم: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} [فاطر:8] .
يقضى على المرء في أيام محنته حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن هذه صور من صور التشدد في العقائد أو العبادات أو المعاملات، ولو ذهبت أسترسل في الأمثلة والنماذج والصور لطال المقام، ولم نصل إلى ما نريد، ولكن حسبي أن أعطي مثالاً لكل نوع من هذه الأنواع، بإمكان الإنسان أن يقيس عليه مئات الصور التي يراها أو يسمع بها.