يقول أحد المؤرخين عن راهب من رهبان النصارى يقال له مكاريوس: إن هذا الراهب نام ستة أشهر في مستنقع، ليقرص جسمه العاري ذباب سام، وهو يعتبر أن هذا من التخلص من الدنيا ومن التقرب إلى الله عز وجل بتعذيب الجسم، وكان يحمل قدراً كبيراً من الحديد على رأسه باستمرار.
وهناك راهب آخر أقام ثلاثة أعوام في بئر نزح منه الماء يترهبن ويتعبد، وجلس أحد الرهبان سنين قائماً على رجله، لم ينم ولم يقعد طول هذه المدة، وإذا تعب أسند ظهره إلى الجدار، ثم واصل العبادة فيما يزعم ويظن، وكان كثير من هؤلاء القوم يتسترون بشعرهم الطويل الذين يرسلونه باستمرار، ويمشون على أيديهم وأرجلهم كالأنعام، ويسكنون في مغارات السباع والآبار والمقابر، ويأكلون الحشيش والكلأ، ويتأثمون من لمس الماء، ويعتبرون هذا منافياً لنقاء الروح، ويتأثمون من غسل الأعضاء، حتى قال أحدهم: إن الراهب فلاناً لم يغسل الرجلين طول عمره وقال آخر: إن فلان لم يمس وجه الماء ولا رجله مده خمسين عاماً، وبعدما ضعفت هذه الروح عندهم، قام أحد رهبانهم يتأسف على الأيام التي مضت، لهؤلاء الأقوام الذين فرضوا على أنفسهم نوعاً من الرهبانية لم يأذن به الله، ويقول: وآأسفاه! لقد كنا في زمن نعد غسل الوجه، حراماً، فإذا بنا الآن ندخل في الحمامات! وينعى على نفسه هذه الحال إلى آخر ما يذكر المؤرخون عن حال هؤلاء الأقوام.
إننا قد نستغرب هذه الصورة، وهي ليست إلا صورة واحدة من صور كثيرة عج بها تاريخ النصارى، والذين كان الرهبان عندهم يعدون بعشرات الآلاف، بل كان أحد الرهبان يحكم تحت يده أكثر من عشرة الآلاف راهب، وكانوا كهلم بهذه المثابة قد تركوا الدنيا، وتركوا الزواج، والأموال والأولاد والمتاع وكل شيء، وتخلصوا لما يزعمون، أو يرون أنه عبادة، وهذه صورة ناطقة تمثل جزءاً من قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ * لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ * لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} [الغاشية:1-7] كما قال ذلك بعض السلف.
ويقول أحد المؤرخين أيضاً: إن هؤلاء الرهبان الذين كان الواحد منهم مثالاً في رقة القلب والزهد في الدنيا قد عدوا عدُّ الفضائل عيوباً ورذائل، وزهد الناس في البشاشة وخفة الروح والصراحة والسماحة والشجاعة والجرأة وهجروها.