فالقرآن والعلم يحدث انقلاباً كاملاً في شخصية الإنسان، وتغيراً كاملاً فيها من جميع جوانبها، فما بعث الله به نبيه صلى الله عليه وسلم هو كالمطر إذا نزل على الأرض أخرجت زينتها، وقد تأتي إلى أرض قاحلة جدبة شهباء، فإذا نزل عليها المطر، اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، لكن أيضاً الأرض تتفاوت، وليست الخصوبة سواء، ولذلك الرسول عليه الصلاة والسلام ذكر ثلاثة أصناف من الناس في هذا المثل.
1- متعلم مستفيد: قال صلى الله عليه وسلم: {فكان منها طائفة طيبة قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير} .
هذا هو الصنف الأول من الناس يقابل هذا الصنف من الأرض، طائفة من الناس طيبة قبلت الهدى والشرع وتعلمت، وليس فقط علماً باللسان يتحدث به في المجالس، ويتخاصم فيه في المناسبات، ويظهر فيه كل إنسان ما لديه من المعرفة، كما يقع أحياناً لنا، بل كثيراً ما يقع في هذا العصر من هذا! تجد طالب العلم أحياناً همه أن يحصل مسائل معينة، يجادل ويخاصم فيها، وكل ما حصله من العلم هو ما يقع فيه جدل وخصومة في عشر أو عشرين مسألة من المسائل الفرعية في الصلاة وغيرها، فإذا أتيت إلى أمهات المسائل وإلى أصول العلم وجدت أنه لا يملك منها شيئاً.
إنما هي طائفة طيبة قبلت هذا الماء، فأنبتت الكلأ والعشب، وظهر أثر التأثر بالقرآن والسنة على أقوالها وأفعالها وسلوكها ومواقفها كلها، ولا شك أن هذه نفع الله بها نفعاً عظيماً، لأن غاية ما يتصور من أرض نزل عليها المطر أن تنبت الكلأ والعشب الكثير.
2- متعلم مفيد غير مستفيد: {وأصاب طائفة أخرى أجادب أمسكت الماء؛ فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا} هذا القسم الثاني، هناك أرض صلبة إذا نزل عليها المطر، فإنها لا تتشربه بل تمسكه، فتصبح مثل الإناء، لا تشرب الماء فتنبت الكلأ مثل الطائفة الأولى، وإنما تمسك الماء حتى يأتي الناس، فيأخذوا من هذا الماء فيشربوا، وهذا يشبه الإنسان الذي حصل على علم من علم الدين، لكنه لم يتأثر بهذا العلم، ولم ينتفع به في قلبه وفي سلوكه، إنما يحمل هذا العلم لينتفع به الناس، ونسأل الله أن نكون من الأولين، ونفترض أن هذا الصنف الثاني لا بد أن يكون عندهم شيء من التأثر، فعلى الأقل أصل الإسلام والإيمان عندهم، وإلا لم يكن علمهم هذا شيئاً، ولم يؤخذ منهم هذا العلم الذي عندهم لو لم يكونوا مسلمين، فهم تأثروا لكن تأثراً قليلاً قياساً على العلم الذي عندهم، فإذا أتيت إلى العلم الموجود عند الواحد منهم لقلت: هذا يفترض أن يكون إماماً في العمل، وفي الدعوة، وفي الإصلاح، ولكن واقعه على خلاف هذا، نسأل الله العافية.
فهم لم يعملوا بهذا العلم الذي علموه، فينتفع الناس بعلمهم، وربما يدخل بعض الناس الجنة بسبب ما علموهم، وهؤلاء الله أعلم ماذا يكون مصيرهم، وفي صحيح البخاري من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقتاب بطنه، فيدور فيها كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون: يا فلان مالك؟! ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟! أي: فكيف دخلت النار- فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه} .
فربما كان ممن أمرهم ونهاهم من أطاعوه، فدخلوا الجنة، وهو يدور بأقتابه كما يدور الحمار برحاه في نار جهنم، نسأل الله العافية والسلامة.
فهذا لم يزده ما عنده من المعرفة والعلم إلا بعداً عن الله عز وجل، هذه الطائفة الثانية من يحفظ العلم على الناس، لكنه لا يعمل به، فهو مثل الأرض الصلبة التي أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، لكن هي ما انتفعت، فهي كالسراج أو كالشمعة تحرق نفسها لتضيء للناس.
3- معرض جاهل: والطائفة الثالثة: {إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً} .
أرض تشرب الماء ولا تنبت، فهذا مثال لمن لم يتعلم علماً شرعياً ولم يعمل به، فخسر الاثنتين، وهذه شر الطوائف.
فعلم بذلك أن المقصود من الوحي والعلم الشرعي أن يظهر أثره على حامله قولاً وعلماً وسلوكاً، ولهذا لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الذين يخرجون في آخر الزمان، الذين هم حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام، قال: {يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية} وقوله: لا يجاوز حناجرهم: إما أن يكون المعنى أنه لا يرفع لهم؛ أو أنهم لا يستفيدون منه.