وقد لفت نظري جداً تبويب الإمام البخاري في صحيحه حينما قال: "كتاب الإيمان" والإيمان بلا شك يتعلق بالعقيدة، فلننظر ما هي الأبواب التي أدرجها تحت هذا الكتاب -كتاب الإيمان-.
إنها أبواب كلها تتعلق بتهذيب النفس، وترقيق الأخلاق، والحث على مكارم الأخلاق ومعالي الأمور والأعمال الصالحة، وخوف الإنسان على نفسه من أن يحبط عمله، وهو لا يشعر.
إذاً: [[ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل]] كما قال الحسن البصري رحمه الله، ويروى مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه لا يصح.
والكثيرون يخدعهم الشيطان، فيظنون أنهم حراس الدين، وأنهم الذين يحمون الملة، فيشتغلون بالناس عن أنفسهم، ويظن الواحد منهم أنه ينبغي أن يرد على فلان، ويتكلم في حق علان، ويشتم هذا، ويسب ذاك، وينتقص من هذا، وهو يظن أنه يدل على صحة الإيمان والدين والعقيدة، وربما غفل هذا الإنسان عن نفسه، أو عن الأعمال الصالحة، أو عن تحقيق الإيمان في قلبه، فلننظر كيف بوب البخاري بعد كتاب الإيمان بعض أبوابه: كتاب الإيمان: باب/ "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده" هذا من الإيمان.
باب/ "من الإيمان إطعام الطعام".
باب/ "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه".
باب/ "حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان".
باب/ "علامة الإيمان حب الأنصار".
باب/ "من الدين الفرار من الفتن".
باب/ الحياء من الإيمان، إفشاء السلام من الإسلام، قيام ليلة القدر إيماناً واحتساباً، الجهاد من الإيمان، الصوم من الإيمان، الصلاة من الإيمان، الزكاة من الإيمان.
باب/ الدين يسر.
باب/ حسن إسلام المرء.
باب/ اتباع الجنائز من الإيمان، خوف المؤمن أن يحبط عمله وهو لا يشعر، أداء الخمس، النية، النصيحة.
وهذه أبواب كلها أبواب عملية توجهك إلى القول الحسن، والفعل الحسن، والنية الحسنة، وتبين لك ما يكون به الإيمان، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يجعل الإيمان دعوى في القلب أو في اللسان أبداً، ولكن جعل الأعمال هي التي تدل على صدق الإيمان، فإذا رأينا الإنسان يعتاد المساجد ويصلي فيها، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويغار لدين الله تعالى، ويتجنب المحرمات، ويصل رحمه، ويحسن إلى الناس، ويقوم الليل، ويصوم رمضان، ويؤدي الزكاة، ويحب المؤمنين ويواليهم إلى غير ذلك، عرفنا أن هذا الإنسان مؤمن، أما مجرد الدعوى فكما قيل: والدعاوى ما لم يقيموا عليها بيناتٍ أصحابها أدعياء كتاب العلم: ومن هذا الباب أيضاً "كتاب العلم"، فالعلم في نظر الكثيرين مجرد حلقات يحضرها الإنسان، أو أشرطة يستمع إليها، أو كتب يقرؤها أو يحفظها ويستظهرها، ثم يتزين بها في المجالس، ويمارس بها نوعاً من إظهار القوة على الآخرين أحياناً، وذلك إذا لم يصاحب العلم نية صالحة واحتساب لوجه الله عز وجل.
ولكن الذي يدل عليه الحديث النبوي الشريف: أن العلم ليس زينةً في المجالس، وليس مفاخرة ومباهاة، بل هو سلوك وسمة وخلق ودين قبل ذلك كله، ولذلك كان كتاب العلم في صحيح البخاري جله يتعلق بالأدب أدب الجلوس للتعلم وأدب السؤال (سؤال العالم) أدب الاستئذان أدب المراجعة والتصحيح أدب السمر أدب الحياء في طلب العلم ووسائل الحرص على التعلم إلى غير ذلك مما يتعلق بآداب الإنسان وهو يطلب العلم.
كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة: في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة من صحيح البخاري، تجد أبواباً تتعلق بالاعتصام بالقرآن والسنة، لكنها تأتي بالشكل التالي: - باب: ما يكره من التعمق والتنازع في العلم والغلو في الدين والبدع.
إذاً: العلم وسيلة إلى محبة الله ومعرفته وعبادته وطلب ما عنده، فلا داعي للتعمق والمبالغة والتنازع والغلو والبدع؛ لأن هذه كلها تباعد عن الله ولا تقرب إليه.
- (باب: لا تزال طائفة من أمتي) وهؤلاء هم العلماء العاملون المتمسكون بالسنة الداعون الناس إليها، وهم الطائفة المنصورة التي بشر بها النبي صلى الله عليه وسلم.
- باب: قوله تعالى: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام:65] فيشير إلى التفرق والتنازع الحاصل في هذه الأمة، وأن هذا سوف يقع، وقد يكون هذا التنازع -أحياناً- بين العلماء، أو بين طلبة العلم، أو بين الدعاة إلى الله عز وجل، وهو في كل حال مذموم، وإن كان النص أخبر بوجوده، فوجوده ليس دليلاً على مشروعيته؛ فإن النبي عليه الصلاة والسلام أخبر أن هذه الأمة ستتبع سنن من كان قبلها مع أن هذا الأمر محرم، فليس الإخبار بأمرٍ قدري، دليلاً على جوازه أو حله.
- باب: {وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} [الكهف:54] المجادلة في العلم، فلا تجعل العلم ذريعة للجدل والقيل والقال، وأن تُباري به العلماء، أو تُمارِي به السفهاء، أو تصرف وجوه الناس إليك.
- باب: إذا اجتهد الحاكم فأخطأ إذا كنت من طلبة العلم ومن المتبعين للسنة والحريصين على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا تلم الناس إذا اجتهدوا فأخطئوا أو زلت بهم قدم، أو زلت بهم كلمة، أو أخطئوا في قول أو فعل أو اجتهاد، فإن الإنسان إذا اجتهد فأخطأ، فله أجر واحد، وإذا اجتهد فأصاب فله أجران كما في حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه.
- (باب كراهية الخلاف) إذاً: الخلاف مكروه ومذموم، وينبغي للإنسان أن يحرص على تجنبه، وأن يحرص على جمع الكلمة ووحدة القلوب بقدر ما يستطيع، وهذا من أفضل وأعظم ما دعا إليه الشرع، وهو من المبادئ والأسس الكبار، والأصول العظيمة التي يغفل عنها الناس ويتفطنون إلى جزئيات تتعلق بها، وهم يتعلقون بها -أيضاً- ويتمسكون.
ولذلك تجد العلماء في كتب الحديث كثيراً ما يبوب أحدهم: (باب هل يجوز كذا؟) إشارة إلى أنه لم يجزم في المسألة، فلم يقل: لا يجوز كذا أو يجوز، بل قال: هل يجوز؟ فطرحها على شكل سؤال دليل على أن عند الرجل تردداً، هل يجوز أو لا يجوز؟! لأن الأدلة عنده محل نظرٍ وتنازع، أو يقول: باب/ الرخصة في كذا، أو يقول: (باب ذكر كذا وكذا) دليلاً على أنه لم يتبين له فيه رأي -أحياناً- فقد ذكره دون أن يجزم فيه نظراً لتنازع الأدلة واختلاف مآخذها.