ولا شك أن ذكر كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم استخراج الفوائد والعبر منه أولى من أن نذكر كلام الناس ثم نستدل له بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله.
إننا يجب أن نضع لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم هيبة في النفوس، كما قال ابن عباس رضي الله عنه في صحيح مسلم: [[كنا إذا سمعنا أحداً يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ابتدرته أبصارنا]] رفعوا إليه عيونهم، واشرأبوا يريدون أن يسمعوا ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم ناكسو الأذقان، مطرقو الرءوس، لا يتكلم أحدٌ منهم بشيء، لأنهم يريدون أن يسمعوا ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجهزة الاستقبال عندهم كلها في غاية القوة والانشداد والانصياع لهذه الأحاديث المأثورة عن سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم.
فينبغي أن نعظم هذه الهيبة في نفوس الناس كبيرهم وصغيرهم، فنجعل الحديث أصلاً، ونجعل الفوائد والدروس والعبر والأحكام والاستنباطات كلها تفريعاً عن هذا الحديث، وليس العكس، ولهذا أقول: إن الأولى مثلاً بدارس الفقه أن يدرس الفقه على ضوء الحديث، فيقول مثلاً: باب النية، وعن عمر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إنما الأعمال بالنيات} في هذا الحديث فوائد وهي كالتالي.
هذا أولى من أن نقول: قال فلان، وقال فلان، وذهب مالك، وذهب الشافعي، وذهب أحمد وذهب أبو حنيفة، ثم نسوق الحديث بعد ذلك، وإن كان هؤلاء الأئمة يحرصون لا شك على ألا يخرجوا عن قول الرسول صلى الله عليه وسلم وتقريره قدر أنملة.
فكلهم من رسول الله ملتمسٌ غرفاً من البحر أو رشفاً من الديم وكثيرون اليوم يتمسكون بأقوال الرجال؛ لأنها سبقت إلى قلوبهم، فإذا جاءهم الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتهدوا في تخريجه أو صرفه عن ظاهره، أو رده بوجهٍ من الوجوه؛ لأنه يخالف كلام فلان وكلام علان، وهذا ما شكا منه الأول حين يقول: عذيري من قومٍ يقولون كلما طلبت دليلاً هكذا قال مالكٌ فإن عدت قالوا: هكذا قال أشهبٌ وقد كان لا تخفى عليه المسالك فإن عدت قالوا: قال سحنون مثله ومن لم يقل ما قاله فهو آفك فإن قلت: قال الله ضجوا وأعولوا وصاحوا وقالوا: أنت قرنٌ مماحك وإن قلت: قد قال الرسول فقولهم أتت مالكاً في ترك ذاك المسالكُ فيجب أن نعظم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونجعل له هيبةً في النفوس، وهكذا كان السلف، قال عمران بن الحصين رضي الله عنه، عن الرسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في مقدمة صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {الحياء من الإيمان} فقام رجلٌ يقال له بشير بن كعب العدوي وهو إمام جليلٌ من التابعين فاضلٌ نبيل، ولكنه قام وقال: يا صاحب رسول الله! إنا نسمع إن من الحياء خيراً ومنه ضعفاً -يقول: أنا سمعت في الكتب أن الحياء نوعان: حياءٌ محمود، وحياءٌ ناتج عن ضعف في الإنسان- فغضب عمران رضي الله عنه، وقال له: لا أكلمك أبداً، وتجهم في وجهه، وقالوا له: يا عمران هذا رجل من الصالحين، وهذا كذا وهذا كذا، فقال: أحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحدثني من كتبه؟! إذاً: احذر أن تواجه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولٍ من عندك، إن بعض العوام -مثلاً- تقول له: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول لك: (هين) ، لا يا أخي! ليس بهين أنت الهين.
إن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقال له: هين، ولا يقال: دع هذا أو اترك هذا، إذا سمعت قال الرسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجب أن تشرئب وتخاف وتحذر وتفتح قلبك وأذنك لما يقال، وفي حالة ما إذا وجدت هذا الحديث يخالف حديثاً، أو علماً آخر عندك، فعليك أن تسأل بأدب، فتقول: لقد سمعت أحداً يقول: كذا وكذا، فهل ما قاله هذا الرجل صحيح أو ليس بصحيح؟ فتتلطف حتى في طريقة الاستفسار عن معنى الحديث، ولا تواجه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يشعر بالرد، أو عدم القبول أو عدم التعظيم لما قاله الرسول عليه الصلاة والسلام.