في حديث الهجرة -وهو في صحيح البخاري- قدم الرسول صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر إلى المدينة فلم يعرف الأنصار الذين لم يبايعوه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءوا إلى أبي بكر يطيفون به، ويجعلون وجوههم إليه يظنون أنه هو الرسول صلى الله عليه وسلم؛ حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام أبو بكر ٍ يظلله بردائه فعرفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويأتي الرجل الأعرابي في ملأٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فيقف فيهم، ويقول: أيكم محمد؟ لأنه لا يتميز عنهم بمجلس ولا ببزة أو ثوب ولا بِسِمَةٍ ولا بعلامة، وإنما كان صلى الله عليه وسلم غاية في الحلم والتواضع والإخبات إلى الله عز وجل حتى وهو في أعظم المواقف، ينزل عليه الوحي من السماء، وأي إنسان ينزل عليه الوحي؟ إنه لا ينزل إلا على المختار من عباد الله عز وجل، على الرسل الكرام، ينزل عليه الوحي فيكون أضعف ما يكون صلى الله عليه وسلم، حتى إنه ليتفصد من جبينه العرق في اليوم الشاتي، ويسمع له غطيط مثل غطيط البكر، ويحْمَرُّ وجهه صلى الله عليه وسلم، وهو بين ذلك في خيمة، فينظر إليه بعض أصحابه ويتعجبون منه صلى الله عليه وسلم، يقول الله عز وجل: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة:23] فلحظة تنزيل الوحي هي لحظةً من لحظات تحقق العبودية، وكمال الذل لله عز وجل، وهو كمال الإنسان، ورفعة الإنسان.
ومما زادني شرفاً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا لحظة التعبد لله عز وجل وتمريغ الوجه بالتراب له تعالى، وهي لحظةٍ ضعف في ظاهرها وذل، لكنها لحظة كمال للإنسان، ولهذا قال الله عز وجل: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} [الجن:19] أي: رسول الله، فلحظة عبادته لله تعالى ودعائه إياه: هي لحظة عبودية يتجلى فيها ما وهبه الله تعالى من خصائص الجمال والجلال والكمال.