هو زرع الحنان في المنزل, فلا يجوز أن يكون الأب في بيته امبراطوراً مقطب الحواجب مكفهر الوجه، لا يحسن إلا الصراخ والشتم والسب وتوزيع الأوامر يمنة ويسرة, إن هذا الأسلوب لا يمكن أن يخرج أولاداً صالحين, بل لا يخرج إلا أشراراً وليست قدوتك -أيها الأب- بهؤلاء الناس الذين قد نتناقل أخبارهم أحياناً أنهم على مستوى من الهيبة, أو على مستوى من الشخصية بحيث يُخاف منهم, ولا يؤمن جانبهم.
بل قدوتك أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام, وحسبك ويكفيك من هؤلاء قدوة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، فهو يضع الصبي في حجره, ويضمه ويشمه ويقبله، حتى لو لم يكن من ولده, وربما بال الصبي أو بالت البنت في حجر النبي صلى الله عليه وسلم, فدعا بماء فرشّه إن كان ولداً, وغسله إن كانت بنتاً, بل ربما ذهب بنفسه صلى الله عليه وسلم إلى بيت بعض بناته كبيت فاطمة كما في صحيح البخاري عن أبي هريرة فوقف بالباب، وقال: أين لكع؟ أين لكع؟ أي: يمزح مع الحسين حتى في مناداته باسمه فيأتي الحسين يركض -لأنه يحب جده ويفرح به- فيفتح له النبي صلى الله عليه وسلم ذراعيه ثم يضمه إليه, ويقعده في حجره ويقبله فيجد أبو هريرة رضي الله عنه أن فاطمة قد أبطأت بولدها؛ لأنها لبست ابنها ثوباً جميلاً، وألبسته بعض الأشياء التي تلبس على الأولاد الصغار فرحاً بمقدم والدها محمد نبينا عليه الصلاة والسلام.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الصبيان, فرآه أعرابي من هؤلاء الجفاة، فقال: تقبلون صبيانكم؟! والله إن لي عشرة من الولد ما قبلت أحداً منهم! قال: {أوَ أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك؟!} وفي الحديث الآخر قال النبي صلى الله عليه وسلم: {من لا يَرحم لا يُرحم} فيجب أن نعلم أن أولئك الذين يدمرون المجتمعات ويخربونها, ولا يحترمون التقاليد ولا العادات ولا الأخلاق ولا الأديان, هم في الغالب من أولئك الذين نشئوا في بيئات فقدوا فيها الحنان.
وهذا الولد الذي فقد الحنان أو تلك البنت سرعان ما يجدون قرناء السوء الذين يشعرونهم بالحنان, فهذه بنت تقسو عليها أمها، وتغلظ لها في القول، وتشتمها صباح مساء وتعيرها؛ حتى شعرت البنت بأن الأرض قد ضاقت عليها بما رحبت، ثم يوماً من الأيام تسمع رنين الهاتف، فترفعه من باب الفضول, ولأنها لم تترب تربية سليمة, فتعودت أن ترد على الهاتف دائماً وأبداً.
فتجد صوتاً هادئاً رخيماً عذباً يحدثها, ويسألها عن أحوالها, ويطمئن عليها, ويخبرها بأنه يحبها, وأنه يموت إن لم يلقها أو يرها, فصدقت هذه المسكينة، ووجدت الحنان ولو باللسان الذي فقدته في بيتها, فسلكت درب الرذيلة والانحراف, وصوّر لها هذا الذئب بأنه حملٌ وديع, وأنه لا يستطيع العيش بدونها, فإذا قضى منها ما يريد, ألقى بها وذهب يبحث عن غيرها, وجلست هذه المسكينة تعاني آلامها ومشاكلها, وما علم المجتمع أنها وإن كانت مسئولة عن جريمتها, إلا أن أمها وأباها مسئولان قبلها؛ لأنهما لم يراقباها مراقبة صحيحة, ولأنهما لم يمنحاها الحنان الكافي, فصارت تشعر بأنها بحاجة إلى من يعبر لها عن محبتها, وبحاجة إلى من يسألها عن أحوالها, وبحاجة إلى من تفضي له بهمومها, وتتكلم معه عن مشاكلها وآلامها وأحزانها.