فمن شكر الولد القيام بحقه في شريعة الله تعالى, والكثيرون منا يعلمون أن من حق الولد أن تطعمه إذا طعمت, وتكسوه إذا اكتسوت, وتسقيه وتؤويه من أذى الحر والقر، وهذا صحيح, ولكن أولاً: حتى هذا الطعام الذي تقدمه له, وهذا اللباس الذي تمنحه له, وهذا البيت الذي تؤويه فيه, يجب أن تتذكر أنك مسئول بين يدي الله عز وجل يوم القيامة: من أين أطعمته؟ ومن أين ألبسته؟ وفيم أسكنته؟ وإنه لغبن شديد, وخسار عليك أي خسار: أن تتعب في جمع المال في هذه الدنيا, ثم تضعه في فم ولدك, أو تضعه ثوباً على جسده, أو تبني به بيتاً يؤويه, ثم يكون ذلك عاراً عليك في الدنيا، وناراً عليك في دار القرار, لأنك كسبت هذا المال من حرام, فكسبت المال من الربا, ومن المساهمة في البنوك الربوية -مثلاً- أو المساهمة في الشركات الربوية, أو الشركات التي تودع أموالها في البنوك بفوائد، وتعطي هذه الفوائد للمساهمين, أو من بيع حرام, أو من بيعٍ صَاحَبَه حَلِفٌ بغير الله أو كَذِبٌ أو غِشٌّ أو خديعةٌ, أو أخذت أرض غيرك بغير حق, أو ما أشبه ذلك من المكاسب المحرمة التي يعلم صاحبها قبل غيره أنها حرام.
فإن من حكمة الله تعالى أنه جعل في قلب الإنسان فرقاناً يبين له الحرام في هذا الأمر, فالبر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك، فهذا المال الذي شككت في أمره, وقلت: ربما كان حراماً، أو شعرت بأنك كسبته من غير حله, ينبغي أن تقيه ولدك كما تقيه نفسك, وأن تتذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أيما جسد نبت على سحت فالنار أولى به} .
وقد كان لـ أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه في الجاهلية غلام, فأعتقه وكاتبه على أن يأتيه كل وقت بقسط من أقساط الكتابة, فكلما جاءه بقسط قال له أبو بكر رضي الله عنه: من أين كسبته؟ فيقول: اليوم بعت كذا, أو اشتريت كذا, أو عملت كذا, فيأخذ أبو بكر رضي الله عنه هذا المال ويأكله, ولكنه مرة من المرات أتى له بشيء فأخذه وأكله, فلما أكله قال هذا العبد لـ أبي بكر: لم تسألني اليوم كما كنت تسألني من قبل! قال: الآن أسألك من أين لك هذا؟ قال: إني كنت في الجاهلية في مجلس، فأتاني قوم من العرب, وسألوني عن شيء مما لا يعلمه البشر, فتكهنت لهم وادعيت أني أعلم, وأنا لا أعلم ولا أحسن الكهانة, ولكنها أصابت عن طريق الصدفة، فرأيتهم اليوم، فأعطوني جعلي على ذلك العمل, فهذا هو الذي أكلته، فجعل أبو بكر رضي الله عنه أصبعه في حلقه يخرج الطعام من جوفه فلما شق عليه ذلك, وقال له في ذلك بعض من حوله، قال: {والله لو لم تخرج آخر لقمة منه إلا مع آخر نفس مني ما تركته في جوفي قط! وقد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أيما جسد نبت على سحت فالنار أولى به} .
إنه لغبن أي غبن، وفشل عظيم، وحرمان كبير, وخذلان ليس بعده خذلان, أن تتعب أنت وتسهر ليلك وتبذل جهدك وعقلك وتفكيرك وأعضاءك، وتستخدم كل إمكانياتك وصلاتك ومعرفتك من أجل الحصول على هذا المال, ولكنه مال حرام, فتطعمه زوجتك وأولادك، فيكون لهم طيبه, وعليك أنت إثمه وجرمه, هذا فضلاً عن أن أجسادهم تلك التي نبتت من حرام لا يبارك فيها, فلا أظنك تجد برهم, ولا تفرح ببركتهم, ولا تجد شيئاً من نفعهم في هذه الدنيا، وأنت قد أطعمتهم من ذلك المال الحرام.
إذاً: فأول الحقوق هو ما يمكن أن نعبر عنه بالحقوق المادية من مطعم وملبس ومشرب ومسكن وغير ذلك, ولكن ينبغي أن تعلم أن هذه الحقوق لا يمكن أن تأتي بها إلا من طريق حلال يرضي الله عز وجل, هذا إذا كنت ممن يرجو النجاة في الدار الآخرة, ويرجو عاجل بر أولاده ونفعهم في هذه الحياة الدنيا.