1- ما ورد {أن المؤذنين والملبين يخرجون يوم القيامة من قبورهم، المؤذن يؤذن، والملبي يلبي، وأن المؤذن يغفر له مدى صوته، ويشهد كل حجر أو شجر أو جن أو إنس، أو مدر ويكتب له بعدد صلاة من صلى معه بعدد أجورهم حسنات} وهو حديث طويل جداً فيه فضائل كثيرة للمؤذنين لا تثبت ولا تصح.
أما ما سبق فبعضه صحيح.
فأما كونه {يغفر له مدى صوته} فهذا صحيح وسبق، وأما كونه {يشهد له كل شيء} فهو صحيح وسبق.
وأما كونه يخرج من قبره وهو يؤذن، فنقول: إن مات وهو يؤذن؛ فإنه يمكن أن يقال: إنه يبعث مؤذناً؛ كما ورد في الصحيحين في قصة الرجل الذي وقصته ناقته، وكان عليها في يوم عرفة؛ فقال: النبي صلى الله عليه وسلم لما أمرهم بأن يكفنوه في ثوبين، ولا يمسوه طيباً، ثم قال صلى الله عليه وسلم: {فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً، ومن مات على شيء بعث عليه} .
وأما بقية الحديث والذي فيه مبالغات في فضائل المؤذنين، وأنه له ألف ألف حسنة ويحط عنه… إلى آخره، فهذا الحديث حديث موضوع ساقه ابن شاهين وفي إسناده سلام الطويل عن عباد بن أبي كثير وهما يرويان الأكاذيب، قال بعض أهل العلم أحدهما وضعه، إما سلام الطويل أو عباد بن أبي كثير.
2- والحديث الآخر يقول الحليجي: {إذا كان يوم القيامة جيء بكرسي من ذهب مكلل بالدر والياقوت، وعليها قباب من نور، ثم يُنادَى: أين المؤذنون؟ فيجلسون على هذه الكراسي} وهذا الحديث ذكره الخطيب البغدادي عن أبي سعيد الخدري وقال الخطيب: حديث غريب جداً تفرد به إسماعيل بن أبي يحيى، وهو ضعيف سيئ الحال جداً، فالحديث أيضاً حديث موضوع لا يصح بحال عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
3- ومن الأحاديث الموضوعة ما رواه الدارقطني عن ابن عمر قال: {يجيء بلال يوم القيامة على راحلة رحلها من ذهب، وزمامها من در وياقوت، ويتبعه المؤذنون حتى يدخل أو يدخلهم الجنة} وهذا الحديث أيضاً حديث موضوع فيه خالد بن إسماعيل، وكان يضع الأحاديث ويلصقها عن الثقات، ويدخلها في حديثه، فهو كذاب وضاع وأحاديثه كلها موضوعة.
4- ومن الأحاديث الموضوعة في شأن الأذان أنه: {ما من مدينة يكثر مؤذنوها أو يكثر آذانها إلا قل بردها} والحديث ذكره الأزدي عن علي رضي الله عنه وفي إسناده رجل اسمه عمرو بن جميع وهو المتهم بوضع هذا الحديث.
5- ومن الأحاديث الموضوعة: {من قال حين يسمع المؤذن يقول: أشهد أن محمداً رسول الله من قال: مرحباً بحبيبي وقرة عيني محمد، ثم يقبل إبهاميه، ويضعهما على عينيه، لم يَعْمَ ولم يرمد أبداً} أي: لا يصيبه العمى ولا الرمد أبداً، وهذا الحديث -أيضاً- موضوع ذكره الشوكاني في الفوائد المجموعة وغيره، والواقع أن هذا الحديث إنما اختلقه بعض المتصوفة ونسبوه إلى الخضر عليه الصلاة والسلام، وهو بسند منقطع فيه مجاهيل، وبينهم وبين الخضر أزمنة متطاولة فمن منهم رأى الخضر؛ حتى ينقل عنه هذه الرواية المختلقة الموضوعة المكذوبة؟! وجميع الروايات عن الخضر روايات مكذوبة ملفقة لا أصل لها، وهذا أحدها.
6- ومن أشهر القصص الموضوعة في شأن الآذان، قصة بلال رضي الله عنه والتي جاءت من طريق أنس ومن أقدم من رأيته ذكرها ابن عساكر في تاريخ دمشق ذكر في ترجمة إبراهيم بن محمد والذي جده أبو الدرداء الصحابي الجليل رضي الله عنه وأرضاه، وفي هذه القصة أن بلال لما ذهب إلى الشام -كان ذهب إلى الغزو- نام ذات ليلة فرأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا بلال ما هذه الجفوة - كان بلال أبطأ عن زيارة المدينة- فاستيقظ بلال فزعاً مذعوراً خائفاً وذهب إلى المدينة من ليلته.
قال: فلما دخل على المسجد جاء إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم - هكذا تقول الرواية المكذوبة - دخل على قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فكب عليه يلثم تربه ويقبله ثم جاءه الحسن والحسين، فقام إليهما يقبلهما ويبكي، فقالا له: يا بلال! أذن لنا كما كنت تؤذن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: فلما كان عند السحر صعد بلال في المسجد في الموضع الذي كان يؤذن فيه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر فلما وصل إلى قوله: أشهد أن لا إله إلا الله ارتفع الضجيج والبكاء وارتجت المدينة به، فلما قال: أشهد أن محمداً رسول الله لم يبق أحد إلا صاح وبكى حتى خرجت العواتق من خدورهن، وخرج الناس يقولون: هل بُعِثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هل بُعِثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فما رئي يومئذ أكثر باكياً ولا باكية بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومئذٍ.
وهذه القصة على أنها قصة عاطفية ومثيرة إلا أنها قصة موضوعة، وفي إسنادها محمد بن أبي الفيض ولذلك قال الشوكاني في الفوائد المجموعة عن هذا الحديث: لا أصل له، وقبله قال الحافظ ابن حجر في لسان الميزان: هذا الحديث بين الوضع وهو ظاهر جداً أنه مكذوب ملفق من وجوه عديدة: أولاً: قضية أن بلالاً يأتي إلى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم فيقبله ويلثمه، حاشاه من ذلك! لم يكن هذا الأمر من دأب الصحابة ولا من دأب الجيل الأول، بل كانوا على شدة محبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم يتقون كل أمر أو فعل يمكن أن يؤدي إلى الشرك، وإنما هذا حدث في المتأخرين من الرافضة والمتصوفة وأمثالهم، هم الذين كانوا يعكفون على القبور، ويطوفون حولها، ويتمسحون بها، ويلثمون تربها، أما أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فكانوا منزهين عن ذلك، وكانوا أكثر الناس تجريداً وتوحيداً وأبعد الناس عن الشرك ومظانه.
ثانياً: أنه لا يحفظ الأثر والنقل إلا من هذا الطريق الذي فيه هذا الراوي الضعيف جداً وهو محمد بن أبي الفيض ولا عبرة بروايته.
ثالثاً: أن بلالاً رضي الله عنه نقل كثير من أهل السير، كالحافظ ابن حجر في الإصابة وابن عبد البر في الاستيعاب وغيرهما ممن ترجموا له، وكذلك ابن أبي شيبة في مصنفه ذكر مجموعة من الآثار، في بعضها أن بلالاً رضي الله عنه لم يؤذن لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وتولى أبو بكر أراد بلال أن يذهب إلى الشام، ليجاهد مع المؤمنين هناك فقال له أبو بكر: بل تبقى وتكون عندي، فقال بلال لـ أبي بكر رضي الله عنهما: إن كنت أعتقتني لنفسك فاحبسني، وإن كنت أعتقتني لوجه الله فدعني أذهب للجهاد في سبيل الله، فخلى أبو بكر رضي الله عنه سبيله ثم خرج إلى الجهاد.
ويقال: إن عمر رضي الله عنه حين خرج إلى الشام وذهب إلى بيت المقدس، لقي الصحابة وفيهم بلال، وطلب عمر من بلال أن يؤذن، فأذن بالشام حتى بكى عمر وبكى المسلمون جميعاً، وتذكروا الحالة التي كانوا عليها زمان حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالصحيح أن بلال خرج إلى الشام للغزو والجهاد، وظل هناك حتى مات رضي الله عنه وأرضاه، وكان موته سنة عشرين تقريباً، وقال بعضهم: وكان بطاعون عمواس، وطاعون عمواس كان في السنة الثامنة عشرة، المهم أنه كان في سنة عشرين تقريباً، ودفن بالشام إما بداريا أو بـ دمشق أو بما حولهما.
فالمهم: أن بلالاً خرج إلى الشام في الغزو، وظل هناك حتى مات رضي الله عنه ودفن بها، فهذه القصة المروية عن بلال لا تصح ولا تثبت بوجه من الوجوه.
هذا والله تبارك أعلى وأعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
الليلة سوف نختم بإذن الله تعالى الكلام على بعض البدع المتعلقة بالأذان وفي الأسابيع القادمة سأتكلم بإذنه تعالى عن الآداب المشروعة للمؤذن مما لا يرد في بلوغ المرام وقد أخصص درساً للإجابة على أسئلة الإخوة عموماً حول الأذان.