استشعار الذنب

الأمر الثالث: من وسائل العلاج استشعار الذنب، وأن الوسواس ذنب يتاب منه فهو ذنب من وجوه عديدة.

أولاً: مخالفة هدي الرسول صلى الله عليه وسلم: حيث إن الموسوس لم يسعه ما وسع ملايين المسلمين عبر العصور، الذين حجوا مع الرسول عليه الصلاة والسلام حجة الوداع مائة وأربعة عشر ألفاً، ما فيهم موسوس، والتابعون كذلك، ثم هذه الأمة الممتدة في شعاب الزمن جيلاً بعد جيل، ورعيلاً بعد رعيل.

تصوري كم رجل وكم امرأة عاشوا على ظهر الأرض منذ البعثة إلى اليوم، إنهم خلق لا يحصيهم إلا الله عز وجل ألا يسعك ما وسع هؤلاء الملايين؟! بل ألوف الملايين من الأمم التي هي أحسن هدياً، وأكثر صدقاً، وأصلح قلباً، وأوسع علماً، وأقل تكلفاً، ألا لا وسَّع الله على من لا يسعه ما وسع هذه الأمة منذ نبيها صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين هم خير القرون، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الأشهاد، ألا لا وسَّع الله على من لم يسعه من الهدي ما وسع هؤلاء.

فليحذر الإنسان أن يكون عرضة لدعوة المؤمنين عليه بالضيق، وأن يعاقب على هذا الأمر الذي يفعله تديناً، ومع ذلك هو عرضة لعقاب الله تعالى وأخذه له في الدنيا والآخرة، فإن هذا يعاقب عاجلاً، ومن عقوباته العاجلة: أنه إذا لم يسارع بالإنقاذ وإخراج نفسه من هذه الورطات؛ فإن الأمر قد يزيد في شأنه، وقد يصبح يوماً من الأيام وكأنه يشعر أن لا علاج له، وإن كنا نؤمن قطعاً أنه ما أنزل الله من داء إلا له دواء علمه من علمه وجهله من جهله، هذا نؤمن به ولا شك.

ثانياً: أيضاً وجه كون الوسواس ذنباً من جهة الإسراف: فإن الموسوس يسرف في استخدام الماء: في الغسل والوضوء، ولا شك أن الرسول عليه الصلاة والسلام أبصر الناس، وأطهر الناس، وأعبد الناس، وأصلح الناس، وزوجه عائشة رضي الله عنها أخذت عن الرسول عليه الصلاة والسلام مباشرة، فكيف كانت تغتسل؟ هل تعجبين أيتها الأخت إذا قلت لك ما في صحيح مسلم أن الرسول عليه الصلاة والسلام وعائشة {كانوا يغتسلون بثلاثة أمداد} أي: أقل من صاع، غسل وهم أوفى منَّا شعراً، وأكبر منَّا أجساماً، وأعمق منَّا علماً، وأقل منَّا تكلفاً، وأحرص منَّا على الخير، فماذا بعد الحق إلا الضلال؟ فالذي لا يسعه هذا الهدي ولا يعجبه هذا المسلك؛ فليختر لنفسه طريقاً آخر غير الطريق الذي سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهدياً آخر غير الهدي الذي سار عليه عليه الصلاة والسلام.

ومن أحبت منكن -أيتها الأخوات المؤمنات- أن تحشر في زمرة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن ترد حوضه، وأن تكون معه في الجنة، فلتلزم هديه وغرْزَه، ولتحاذر كل الحذر أن يجرها الشيطان إلى هدي آخر أو إلى طريق آخر غير هدي النبي صلى الله عليه وسلم.

ثالثاً: التقصير في العبادة من أوجه: كون الوسواس ذنباً فهو مدعاة للتقصير في العبادة، والإخلال بما أوجب الله تعالى، فما هو الذي أباح لكِ -أيتها الموسوسة- أن تقطعي صلاتكِ بعدما شرعت فيها؟ فإن هذا عبث وتلاعب بالعبادة، كيف تقولين: الله أكبر وأنت مستقبلة القبلة، ثم بعدما تُكبري تقولي: هاه!! يمكن أني لم أنو؛ ويمكن أني نسيت ولم أغسل اليد اليمنى أو اليسرى، أو لم أمسح الرأس، ويمكن أن بقعة لم يصبها الماء، ويمكن يمكن ثم تفرض من هذه الفرضيات الخيالية التي لا تنتهي أبداً، ثم تقطع صلاتها، وتذهب لتتوضأ مرة أخرى، أو تقول: ربما لم أنوِ، أو لم أكبِّر، أو إذا تعدت عملاً قالت: قد لا يكون فعلته، يمكن، يمكن، … وهكذا.

ما هو الدين الذي أباح لها ذلك؟! أي شريعة أباحت لها ذلك؟! وأي نص أباح لها ذلك؟! هل نحن نعبد الله بأهوائنا وبأمزجتنا وبميولنا وآرائنا الشخصية، أو نعبد الله تعالى بما شرع؟! نحمد الله تعالى الذي لم يترك مجالاً في أمور الشرع إلا وبينّه في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فهاتِ لنا -بالله عليك- إذا كنت تعرفين نصاً يؤيد ما تزعمين وتفعلين.

كل الناس يرغبون أن يرضوا الله تعالى وأن يطيعوه، وأن يسيروا على نهج رسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا كان عندك من العلم والمعرفة بطريقة العبادة والوضوء والغسل والصلاة والصيام والنية ما ليس عندهم فهات، هات حتى يشاركك غيرك في هذا الخير الذي تزعمين أنه عندك ولم يصل إلينا، أما إذا كنت تعرفين أنه باطل فلا داعي لأن نخدع أنفسنا، ونسأل أسئلة باطلة لا يسأل عنها، فالباطل يترك جملة وتفصيلاً، ولا يلزم أن يعرف الإنسان تفاصيل الباطل حتى يتركه، بل الباطل باطل يترك بدون سؤال.

رابعاً: ومن أوجه كون الوسواس ذنباً وإثماً يتاب منه، ويستغفر منه: أن فيه إساءة للآخرين وظلماً لهم، وبخساً لحقوقهم، فالزوجة تسيء إلى زوجها، وتمنعه حقه، فهي أبداً إما في دورة المياه، وإما تصلي، وإما في غرفتها تبكي مع نفسها فتمنع زوجها من الاستمتاع الذي أباحه الله تعالى لهم، وهذا ظلم له، والزوج إذا كان مبتلى بالوسواس، فهو يسيء للآخرين، يسيء لزوجته، فهو يفكر أبداً في الطلاق، ويقول: أظنه خرج مني، أو فكرت فيه، أو نويته، ونية الموسوس لا عبرة بها؛ لأنها ليست نية في الواقع، وكل شيء يخطر في باله يتحول إلى نية في ظنه، فيأتي ويقول: أنا نويت الطلاق ولم أنطق به، وقد يأتي إلى إنسان لا يعرف حاله فيقول: نويت الطلاق ولم أنطق به، فيقول له: ما دام أنك نويت الطلاق فهو واقع: {إنما الأعمال بالنيات} ويظن هذا المسكين أنه طلق زوجته، وقد يراجعها بناء على أن الطلاق الأول حصل، فيقول: ما دام حصلت الرجعة إذاً الطلاق حاصل من باب الأولى، وهكذا يظل المسكين في سلسلة من الأوهام والظنون والأخطاء، والسبب كله هو جهل هذا الإنسان، وعدم معرفته بحاله، ولا بحكم الله تعالى في أمثاله، فيسيء هذا الموسوس إلى زوجته، ويمنعها حقوقها من الاستمتاع المباح، والمعاشرة بالمعروف بسبب هذا الكيد الشيطاني، وهذا الوسواس الذي تغلغل في قلبه.

خامساً: من أوجه كون الوسواس ذنباً: أن فيه تشويهاً لسمعة الدين، وتشويهاً للمتدينين، وإنه ليسوءنا جميعاً معشر أهل الإسلام، ومعشر المنسوبين إلى الخير، يسوءنا أن يكون الموسوسون من بيننا، وأن يحسبون علينا، لأن الناس إذا أرادوا أن يذموا إنساناً، أو يسخروا منه قالوا: فلان موسوس، فيكفي هذا ذنباً له، وحطاً من قدره.

إذا قيل: موسوس، تصورنا إنساناً يتحرك بصورة معينة، ويتردد في كل شيء، ويشك في كل شيء، وله حالة خاصة، ونفسية خاصة، فهو يسيء إلى سمعة الدين ومظهر المتدينين، ويمنع كثيراً من الناس من الالتزام بهذا السبب.

إذاً فأنتِ -أيتها الأخت الموسوسة- من حيث تشعرين أو لا تشعرين أسأت إلى الدين والمتدينين، فيجب أن تكفي عن هذا الأمر، وأن تعيدي التصور الصحيح عن المتدينين، وتزيلي هذا المظهر السيئ وهذه السمعة السيئة التي نَمت إليهم من خلال فعلك وأفعال أمثالك من الموسوسين والموسوسات.

فضلاً عن الانقطاع عن مصالح الدنيا والآخرة، الموسوس لا يقرأ القرآن إلا قليلاً، ولا يذكر الله إلا قليلاً، ولا يصوم إلا قليلاً، ولا يصلي إلا قليلاً، لأنه مشغول بهذه الوساوس التي انقطع بسببها حتى عن مصالحه الدينية، أما المصالح الدنيوية فحدّث ولا حرج، فالموسوس ربما فكر في ترك الوظيفة، وترك الدراسة، وترك أشياء كثيرة والتفرغ لهذا الوسواس.

والأخوات المبتليات بهذا الأمر يقال فيهن ما يقال في الذكران، فالموسوسة تترك التدريس، وتترك الوظيفة وما فيها من إصلاح وخير وبر ونفع للخلق وهداية، وتنقطع لهذا الأمر، وتترك مصالحها الدنيوية فقد لا تقوم -كما أسلفت- بحقوق زوجها من طبخ، وتنظيف للمنزل، وغسل للثياب وكيها، وإصلاح شئونها، والقيام على أطفالها، لماذا؟ لأنها مشغولة بهذا الأمر الذي استحوذ عليها وأصبح يمنعها من كل شيء.

وهذا لا شك إثم يُتاب منه، وباب التوبة مفتوح كما قال الرسول عليه السلام: {لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها} .

سادساً: ومن أخطر ما يجعل كون الوسواس إثماً، أنه مخالفة صريحة واضحة صارخة لنصوص الكتاب والسنة التي بين الله تعالى فيها رفع الحرج، وهي كثيرة: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} [الشرح:5] {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} [الأعلى:8] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن هذا الدين يسر ولن يشادَّ الدين أحد إلا غلبه، فسددوا، وقاربوا، وأبشروا، والقصد القصد تُبلغوا} أين القصد؟! وأين اليسر؟! وأين التسديد؟! وأين المقاربة؟! بل هو -والله- الحرج كل الحرج، والشدة كل الشدة، والعسر كل العسر، والجور كل الجور، وليس فيه رائحة التيسير، والرفق، والقصد.

ويا ترى هل تؤمن الأخت الموسوسة بنصوص الكتاب والسنة المصرحة بنفي الحرج، ونفي العسر، وهداية الرسول صلى الله عليه وسلم لليسرى، وتيسيره لها؟! لا شك أنها تؤمن ما دامت مسلمة.

إذاً: الحال التي تعيشها هل تعتقد أنها يسر؟! كلا والله، بل هي الحرج كل الحرج، والله عز وجل خفف عن الخلق في الشرع أموراً دون ما تعانيه الموسوسة بمراحل كثيرة، ومع ذلك يسَّر عليهم فيها، وخفف عليهم فيها بنفي الحرج عنه، وبيان الفسحة في الدين، فما بالنا نشدد على أنفسنا في أمور يسرها الله تعالى علينا فيما دونها كثيراً كثيرا.

فليحذر الإنسان أن يكون مشرعاً لنفسه غير ما أنزل الله، وحاكماً لنفسه بغير ما أنزل الله، ومختاراً غير طريق الله، ومبتغياً هدياً وسنةً غير هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته، ليحذر من ذلك، وليستشعر أن هذا ذنب، ينبغي أن يسارع في التوبة منه.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015