Q يقول: أنا طالب علم أحاول تنظيم الوقت، والاستفادة من وقتي، ولكنني أجد فشلاً في الوقت، وعدم بركه، فهل هذا بسبب المعاصي؟ وكيف لي أن أعرف نوع المعصية؟
صلى الله عليه وسلم أقول: أولاً: المعاصي هي أحد الأسباب التي تكون سبباً في أن ينزع الله تعالى من العبد بركة الوقت، لكن هناك أسباباً أخرى، من هذه الأسباب: سوء التربية؛ فإن بعض الشباب لم يتلقَ تربية سليمة، فلا يكون عنده حسن تصرف في وقته، ولذلك يضيع كثير من وقته.
ومن الأسباب: عدم الموجه؛ فإن الشاب إذا كان بمفرده، وهو حديث عهد بهذا الطريق، فربما يكون يوماً هنا، ويوماً هناك، فلا يستفيد من وقته.
شاب مثلاً: أراد أن يتجه إلى طلب العلم، فبدأ اليوم، وقال: القرآن أهم شيء، وهو كلام الله عز وجل، فأريد أن أبدأ بالتفسير، بدأ بتفسير ابن كثير كما نصحنا، فلما قرأ تفسير سورة الفاتحة كان في المسجد، فجاء واحد وسأله سؤالاً فقهياً، فقال: والله لا أدري، لما خرج قال: إذاً الفقه أهم! الناس يحتاجون الفقه أكثر مما يحتاجون التفسير، فترك التفسير واتجه إلى الفقه، لأن الناس يسألونه، فهو يريد أن يجيب على أسئلتهم! بدأ يفتي في الفقه، يقرأ الفقه فيفتي فيما يعلم، أو فيما لا يعلم! بعد فترة جاء إنسان وسأله عن حديث، قال: ما درجة حديث كذا وكذا؟ قال: إذاً الناس اليوم أرى أنهم يهتمون بالحديث، فترك الفقه واتجه إلى قراءة كتب السنة! وهكذا أصبح لا يستقر على حال لعدم الموجه الذي يأخذ بيده.
السبب الرابع: سوء الطبيعة عند الإنسان؛ بعض الناس جبلوا على أخلاق ذميمة، مثل الملل، وإني أستسمحكم عذراً أن أذكر لكم أسلوباً من أساليب علاج مثل هذه الطبيعة، وذلك بأن يعود الإنسان نفسه إذا بدأ بشيء أن يتمه، ولعلي ذكرت لكم في بعض المناسبات أنني كنت أحاول أن أعود نفسي على هذا الأمر، واستفدت منه كثيراً بحمد الله، قرأت يوماً كتاباً من الكتب اسمه مناظرات في أصول الفقه بين ابن حزم والباجي مؤلفه الدكتور عبد المجيد تركي، وهو مجلد ضخم، أظنه في نحو ستمائة صفحة، أعجبني عنوانه فقرأته، لما قرأت من هذا الكتاب (100صفحة) وجدت أنه رسالة دكتوراه في جامعة السربون في فرنسا، في أصول الفقه، ووجدته كتاباً لا أرى أن أضيع وقتي في قراءته، ليس مفيداً على الأقل بالنسبة لي، لكنني مع ذلك أحببت أن أعود نفسي على خلق وهو: أن الإنسان إذا بدأ في شيء يتمه، وألاَّ يعود نفسه أن يبدأ في هذا الكتاب فيقرأ صفحة ثم يتركه، يقرأ المقدمة ثم يتركه، يقرأ فصلاً ثم يتركه! إذا بدأت في كتاب فعليك أن تتمه إلى النهاية، ولو كان أقل مما تريد، أو أقل مما تتصور، حتى تعتاد على ذلك وتزيل طبيعة الملل، والتقلب التي تكون حائلاً عند كثير من الشباب دون الاستفادة، تجده يقول: قرأت من هذا، ومن هذا لكن لو سألته هل قرأت كتاباً بأكمله؟ قال لك: لا! لا نريد أن نفتضح، وإلا لعرضنا عليكم أسئلة بكتب معروفة مشهورة، مثلاً كتاب تفسير ابن كثير هذا كل الناس يعرفونه، الحضور على كثرتهم من منهم قرأ تفسير ابن كثير من أوله إلى آخره؟ ربما تجد واحداً أو لا تجد أحداً، كتاب آخر من الكتب المشهورة زاد المعاد لـ ابن القيم من قرأ زاد المعاد؟! وبالمناسبة زاد المعاد من الكتب المفيدة العامة التي يحسن قراءتها، ربما لا تجد واحداً منا قرأ زاد المعاد من أوله إلى آخره، وهذا عيب في الواقع، عيب كبير، ينبغي أن يعود الطالب نفسه، يهذب عاداته وطبائعه، بحيث إذا بدأ في كتاب يحاول أن يتمه، لكن لا تبدأ في كتاب إلا بعد أن تستشير في ذلك، ولا تتجه إلى طريقة في التعلم، إلا بعد أن تستشير في ذلك أيضاً.
أما المعاصي التي يقول: كيف أعرف نوع المعصية التي كانت سبباً في انتزاع بركة الوقت؟ المعاصي نوعان: النوع الأول: معاصي ظاهرة لا تحتاج إلى بيان، مثل: كونه يستمع الغناء، أو يأكل الربا، أو عاقاً لوالديه، أو ما أشبه ذلك.
النوع الثاني: وهو الخطر، المعاصي الخفية، وخطورة هذه المعاصي من وجهين: الوجه الأول: أن الإنسان قد لا يتفطن لها، فقد يكون الإنسان عنده معصية خفية لكن بحكم أنه معفٍ للحيته، مقصر لثوبه، محافظ على صلاة الجماعة، يرى أنه -الحمد لله- ما عنده معاصي، لا يا أخي! يمكن أن يكون عندك الحسد، أو الحقد، أو البغضاء، أو عندك في قلبك نوع من الضعف، نوع من الخوف من غير الله، أو الحب لغير الله، إلى غير ذلك من المعاصي الخفية القلبية، التي هي من باطن الإثم، وهذه الأشياء قد لا يتفطن لها الإنسان، وذلك لأننا أيضاً قد نهتم بتجميل الظاهر أكثر مما نهتم بتجميل الباطن! فالباطن لا يطلع عليه إلا الله، ولذلك قد تكون نية الإنسان مثلاً خبيثة، لا نتنافس نحن في إصلاح النية، ولكن قد نتنافس في التبكير للمسجد، في طلب العلم، في حفظ القرآن، في الأعمال الصالحة، لأنها ظاهرة، لكن النية قد لا نتنافس فيها، ليس فيها مجال للمنافسة، لأن علمها عند ربي.
إذاً المعاصي الخفية خطورتها أولاً تأتي من جهة أن الإنسان قد لا يتفطن لها، فعلى الإنسان أن يختبر قلبه.
الوجه الثاني: من أوجه خطورتها أن أثرها عظيم؛ لأنها تتعلق بالقلوب، والشيء المتعلق بالقلب أخطر من المتعلق بالجوارح، فإن القلب عليه مدار الأعمال، وهو ملك والأعضاء جنود تابعة له، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام، في حديث النعمان المتفق عليه: {ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب} فمدار الفساد والصلاح على القلب، ولذلك فإن المعاصي الخفية والإثم الخفي أعظم من الإثم الظاهر.
وهناك خطورة ثالثة أيضاً: وهو أن إزالة هذه المعاصي يحتاج إلى جهاد كبير، فإن الإنسان مثلاً: إذا كان مبتلىً بمعصية ظاهرة، مثل عقوق الوالدين، يستطيع أن يذهب إلى والده ويقبل رأسه، ويقول: سامحني، ويبكي بين يديه، ويعمل على إعادة المياه إلى مجاريها، بقدر ما يستطيع.
لكن أنَّى للإنسان مثلاً أن يصلح فساد قلبه؟! إذ أنه يحتاج إلى جهاد، يحتاج إلى عمل، إلى صبر، إلى دأب، إلى بكاء بين يدي الله، إلى دعاء، إلى ملازمة حتى يزول ما في قلبه، يقول الله عز وجل: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْأِثْمِ وَبَاطِنَهُ} [الأنعام:120] ومن خلال تجربتي ومعايشتي لواقع الناس، وصلحائهم وفساقهم، دعاتهم ومدعويهم، علمائهم وطلاب علمهم، وجهالهم؛ ظهر لي أن الجميع، إلا من رحم الله يهتمون بإصلاح الظاهر أكثر مما يهتمون بإصلاح الباطن! وهذه ثغرة ومثلبة يجب على طالب العلم الناصح لنفسه أن يعمل على تداركها.