أمثلة على تسمية المعروف والمنكر في المجتمع

لو أخذنا نموذجاً -ولا شك أنه النموذج الأمثل-: نموذج أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، المجتمع الأول، ذلك المجتمع الذي يعتبر قدوة للناس عبر العصور، ومن رحمة الله عز وجل أنه وضع ذلك المجتمع بحيث أن الناس يمشون في طريقهم نحو الهداية والاستقامة على مدى الزمان وهم ينظرون إلى هذه المنارة المرتفعة، منارة المجتمع الإسلامي الأول منارة محمد عليه الصلاة والسلام والذين معه، ثم القرون الثلاثة الفاضلة: {خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذي يلونهم} فينظرون إلى ذلك المجتمع، ينظرون إلى الأشياء الشائعة فيه، ويعرفون أن هذه أمور من المعروف، وينظرون إلى الأشياء التي أنكروها ونبذوها فيعرفون أنها من المنكر.

على سبيل المثال أيضًا: خلافة أبي بكر رضي الله عنه، الآن المسلمون منذ عهد خلافة أبي بكر إلى اليوم وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، يكتبون في العقائد أن المؤمنين، وأن أهل السنة والجماعة يعتبرون أن أفضل هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر، وهو الأجدر بالخلافة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا موضع إجماع عندهم.

هذا الإجماع لم يرد نص قرآني ينص عليه، ولم يرد حديث نبوي صريح يحدد هذه القضية بصورة حاسمة، نعم، وردت أحاديث كثيرة أشبه ما تكون بالإيماء والتلميح والإشارة إلى جدارة أبي بكر رضي الله عنه، لكن بعدما توفي الرسول عليه الصلاة والسلام واجتمع المسلمون في سقيفة بني ساعدة وتقاولوا وتفاوضوا وتحادثوا، ثم انتهى بهم الأمر إلى الاتفاق والإقرار بولاية أبي بكر رضي الله عنه، وبايعوه عن طواعية واختيار، وجعلوه أميراً للمؤمنين، وسمعوا له وأطاعوه، واستقر الأمر على ذلك، بعد هذا عرفنا؛ بأن ولاية أبي بكر أصبح معروفاً في ذلك المجتمع الأول بدليل أنه وجد بينهم واستقر وقام، فعرفنا بذلك أن ولاية أبي بكر رضي الله عنه وأفضليته وتقدمه على الصحابة هي من الأمور المتفق عليها عند الأمة، ومثل ذلك أشياء كثيرة قد لا تكون النصوص فيها حاسمة بصورة نهائية لكن واقع المجتمع الإسلامي الأول هو المقياس.

أضرب مثالاً آخر -أيضاً- موضوع كتابة الحديث النبوي، هل يكتب الحديث أو لا يكتب؟ الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن كتابة الحديث خشية أن يختلط بالقرآن الكريم، ولأن الكُتَّاب من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا قليلاً، فكان يخشى أن ينشغلوا بكتابة الحديث عن كتابة القرآن الكريم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {لا تكتبوا عني شيئاً غير القرآن، ومن كتب عني شيئاً غير القرآن فليمحه} فنهى عن الكتابة.

ولذلك ذهب جماعة من الصحابة إلى تحريم كتابة شيء من الحديث النبوي، ومن أشهرهم عمر رضي الله عنه حيث كان ينهى عن كتابة الحديث في أول أمره، ولما توفى الرسول عليه الصلاة والسلام، وجمع القرآن وأمن اختلاطه بالسنة بعد ذلك، ثم وجد الناس في القرن الأول مشكلة وهي خشية ضياع السنة النبوية؛ لأن المشافهة مع أنها وسيلة قوية لكن مع ذلك قد يموت الحفاظ فيضيع شيء من العلم الذي كان عندهم، ولابد من التدوين والكتابة، فاستقروا على جواز كتابة الحديث النبوي حتى أجمعوا على ذلك بلا مخالف، وبدءوا يكتبون الحديث النبوي.

ولاشك أنه يوجد أحاديث اعتمدوا عليها، مثل قول الرسول عليه الصلاة والسلام لـ عبد الله بن عمرو بن العاص: {اكتب فوالله ما خرج منه - وأشار إلى فمه - إلا حقٌ} ومثل قول النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: {اكتبوا لـ أبي شاة} .

وهو رجل من أهل اليمن لما سمع الخطبة، قال: اكتب لي يا رسول الله، فقال: {اكتبوا لـ أبي شاة} ومثل قوله عليه الصلاة والسلام وهو في مرض موته: {ائتوني اكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً، فاختلفوا عند النبي صلى الله عليه وسلم، واحد يقول يكتب، وآخر يقول: الرسول صلى الله عليه وسلم مريض وعندنا كتاب الله حسبنا، فغضب الرسول عليه الصلاة والسلام، وقال: قوموا عني ولا ينبغي عند نبي تنازع} فقاموا عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال عليه الصلاة والسلام: {ما أنا فيه خير مما أنتم فيه} قال ابن عباس رضي الله عنه كما في صحيح البخاري: [[إن الرزية كل الرزية -يعني المصيبة كل المصيبة- ما حال بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب لهم الكتاب]] .

فكتابة الحديث النبوي ليس فيها نصوص حاسمة قاطعة أنها مطلوبة وواجبة، لكن لما واجه المسلمون الأولون ضرورة الواقع رجحوا القول بمشروعيته، بل بوجوب كتابة الحديث النبوي، واتفقوا على ذلك من غير مخالف ولا نكير.

ومقصودي من هذا المثال والذي قبله وغيرها كثير: أن المعروف هو ما عرف بين المسلمين الملتزمين بمنهج الكتاب والسنة أنه معروف مطلوب من الشرع، والمنكر هو ما عرف بين المسلمين الملتزمين بالكتاب والسنة أنه مكروه مطلوب تركه.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015